الإثراء غير المشروع ومصادره الخفية في المملكة العربية السعودية: دراسة نظامية وتحليلية

2 أكتوبر, 2025

المقدمة
يُعتبر الإثراء غير المشروع من أخطر الجرائم الاقتصادية ذات الطابع الإداري، إذ يجمع بين الفساد المالي وسوء استغلال السلطة، ويؤدي إلى الإضرار المباشر بالمال العام، وتقويض ثقة المواطنين في المؤسسات الرسمية والخاصة على حد سواء. وتنبع خطورته من أنه لا يقتصر على الفعل المجرّم ذاته، بل يمتد أثره إلى تشويه معايير العدالة والمساواة، وإضعاف القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، وتعطيل برامج التنمية.

في المملكة العربية السعودية، حيث تشهد الدولة مرحلة إصلاحات جذرية في شتى القطاعات، وتتبنى رؤية 2030 التي جعلت النزاهة والشفافية ركائز أساسية لنجاح التحول الوطني، فإن مكافحة الإثراء غير المشروع أصبحت ضرورة ملحة. فالمال العام هو الركيزة التي تُبنى عليها خطط التنمية، وحمايته مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع.

أهمية هذا البحث تكمن في أنه لا يكتفي بشرح المفهوم، بل يسعى إلى تحليل الإطار النظامي السعودي، والكشف عن الثغرات التي قد تعيق المكافحة الفعالة، مع تقديم حلول عملية مستندة إلى التجارب المحلية والأنظمة ذات الصلة، واستعراض قضايا واقعية جرت معالجتها قضائيًا أو إداريا ويمكن تلخيصها في ثلاث نقاط رئيسية:

من الناحية القانونية: سد فجوة التشريع عبر صياغة مقترحات يمكن تبنيها نظاميًا.

من الناحية الاقتصادية: تعزيز كفاءة استخدام المال العام.

من الناحية المجتمعية: رفع مستوى الثقة بين المواطن والمؤسسة.

أهداف البحث:

  1. تقديم تعريف دقيق للإثراء غير المشروع في السياق السعودي.
  2. رصد الأنظمة واللوائح والأوامر السامية ذات الصلة، وتحليل نصوصها.
  3. استعراض الإشكاليات القانونية والفنية التي تواجه الجهات الرقابية والقضائية.
  4. اقتراح حلول وقائية وتصحيحية ودفاعية قابلة للتطبيق.
  5. بيان موقف المشرّع السعودي من خلال تحليل السوابق القضائية.

منهجية البحث

يعتمد البحث على:

  1. المنهج التحليلي: دراسة النصوص النظامية وتحليل فلسفة المشرّع.
  2. المنهج المقارن: مقارنة التجربة السعودية بالتجارب العربية والدولية.
  3. المنهج التطبيقي: استعراض قضايا واقعية وتحليل أحكامها.

الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للإثراء غير المشروع

أولاً: المفهوم العام للإثراء غير المشروع

الإثراء غير المشروع هو حصول شخص على فائدة أو مكسب مالي أو مادي دون وجود سبب مشروع يبرر ذلك، وعلى حساب الغير أو المصلحة العامة. وهو يقوم على ثلاثة عناصر رئيسية:

  1. تحقق إثراء لشخص ما سواء كان زيادة في الذمة المالية أو تحقيق منفعة مباشرة أو غير مباشرة.
  2.  تحقق افتقار مقابل يصيب طرفًا آخر أو الحق العام.
  3.  غياب السبب المشروع الذي يبرر هذا الانتقال المالي أو المكسب.

في الفقه القانوني، يُنظر إلى الإثراء غير المشروع كقاعدة عامة تهدف إلى منع الظلم ورد الحقوق إلى أصحابها، إذ “لا يجوز لأحد أن يثري على حساب غيره بلا سبب مشروع”.

ثانيًا: الأساس الشرعي

يقوم منع الإثراء غير المشروع في المملكة العربية السعودية على أصول الشريعة الإسلامية، ومن أبرز الأدلة:

  • قول النبي ﷺ: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه”، وهو نص صريح يمنع التملك أو الاستفادة من مال الغير دون رضا مشروع.
  • قاعدة “الضرر يزال”، وقاعدة “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”، وهما تؤكدان رفض الكسب غير المشروع.
  • النصوص القرآنية التي تنهى عن أكل المال بالباطل، مثل قوله تعالى: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون” [البقرة: 188].

ثالثًا: الإطار النظامي 

  1.  الإطار النظامي المباشر

رغم أن التشريع السعودي لم يضع حتى الآن نصًا مستقلًا بعنوان “جريمة الإثراء غير المشروع”، إلا أن المنظومة النظامية تتضمن نصوصًا متفرقة يمكن أن تُستخدم لتجريم ومعاقبة الفعل، منها:

  • نظام مكافحة الرشوة: خاصة المواد التي تجرّم تلقي أو طلب أي ميزة أو منفعة مقابل أداء العمل الوظيفي أو الإخلال به.

التحليل: يمكن اعتباره الأداة النظامية الأقرب لمكافحة الاثراء لكنه يركّز على واقعة “المقابل “أكثر من النتيجة (تضخم الثروة).

  • نظام حماية النزاهة ومكافحة الفساد: الذي أقر إنشاء هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) وأعطاها صلاحيات واسعة للتحري والتحقيق وإحالة القضايا للنيابة.

التحليل: النظام يُمكّن من كشف الإثراء غير المشروع عبر آليات الإفصاح والرقابة,لكنه لا يستخدم المصطلح صراحة.

  • نظام المحاسبة المالية ولوائحه التنفيذية، التي تُلزم الجهات الحكومية بالشفافية في إدارة الأموال العامة.
  • الأوامر السامية التي ألزمت بعض الفئات الوظيفية بتقديم إقرارات ذمة مالية.
  1.  الإطار النظامي غير المباشر

يشمل النصوص التي قد لا تتحدث صراحة عن الإثراء، لكنها تمنع الأفعال التي تؤدي إليه، مثل:

  • الأنظمة التجارية التي تمنع تضارب المصالح بين الصفة الوظيفية والمصالح الخاصة.
  • القواعد المنظمة للاستثمار ومنع استغلال المعلومات الداخلية.
  • أحكام غسل الأموال التي تشمل الأموال الناتجة عن أي جريمة بما فيها الإثراء غير المشروع.
  • اللوائح المحاسبية: تفرض على الجهات الحكومية توثيق جميع المعاملات وإعداد تقارير دورية.
  1. ملاحظات تحليلية:

تشتت النصوص: يجعل إثبات الجريمة أصعب، خاصة عند دمج وقائع من أنظمة متعددة.

غياب التعريف النظامي: يخلق فجوة في التوعية، إذ يجهل كثيرون أن تضخم الثروة بلا مبرر قد يعرضهم للمساءلة.

رابعًا الفئات التي قد يرد عليها الإثراء غير المشروع:

  • المسؤولون العموميون في الوزارات والهيئات الحكومية

يشمل الوزراء والوكلاء ورؤساء الهيئات ومديري الإدارات الحكومية.

تحليل الخطر: بحكم سلطتهم على العقود والمشتريات، فهم في موقع يمكّنهم من التأثير في قرارات مالية كبرى.

مثال واقعي: في 2021، أعلنت “نزاهة “التحقيق مع مسؤولين في قطاع البلديات ثبت تضخم ثرواتهم بنسبة 300٪ خلال فترة قصيرة، مع وجود عقارات بأسماء أقارب.

أعضاء المجالس الإدارية والتنفيذية 

يشمل أعضاء مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة والشركات المدرجة.

خطر الإثراء: تضارب المصالح في العقود، أو الاستفادة من المعلومات الداخلية.

مثال واقعي: هيئة السوق المالية غرّمت عضو مجلس إدارة بعد اثبات استفادته من معلومات غير معلنة لتحقيق أرباح في سوق الأسهم.

  • المراجعون الداخليون والمحاسبون والمستشارون القانونيون.

دورهم محوري في كشف أي تضخم مالي غير مبرر.

الإشكال: في بعض الحالات، قد يتواطأ المراجع مع المسؤول في إخفاء الأصول.

  • الجهات القضائية وهيئات التحقيق

النيابة العامة وديوان المظالم وهيئة الرقابة ومكافحة الفساد.

التحليل: تحتاج هذه الجهات إلى أدوات متقدمة لتتبع الأموال داخليًا وخارجيًا مثل اتفاقيات تبادل المعلومات المالية.

خامسًا: الطبيعة القانونية للإثراء غير المشروع

  • في الفقه القضائي السعودي: يتعامل القضاة مع حالات الإثراء غير المشروع من خلال المبادئ العامة للشريعة، كمنع أكل المال بالباطل، ومن خلال تطبيق الأنظمة المشار إليها أعلاه.
  • في الفقه المقارن: اعتُبر الإثراء غير المشروع إما قاعدة عامة للتعويض المدني (كما في القانون الفرنسي)، أو جريمة قائمة بذاتها (كما في بعض القوانين العربية). أما في المملكة فيُعد مفهومًا أوسع يندرج ضمن مجموعة أنظمة وقواعد شرعية ونظامية متفرقة

الفصل الثاني: الإشكاليات القانونية في مواجهة الإثراء غير المشروع والحلول المقترحة

الإثراء غير المشروع يطرح عدة تحديات أمام القضاء والجهات الرقابية، أهمها:

  1. غياب النص الصريح: هذا الغياب يجعل من الضروري الاعتماد على النصوص العامة أو القرائن، مما قد يطيل مدة التحقيق ويؤثر على قوة الإثبات.
  2. تعقيد أساليب الإخفاء: استخدام الحسابات البنكية الخارجية، أو الأصول المسجلة بأسماء أشخاص آخرين (أقارب أو شركاء صوريين)، أو تحويل الأموال إلى استثمارات غير مباشرة مثل الصناديق العقارية أو الشركات الوهمية.
  3. عبء الإثبات: في بعض الحالات، قد يكون من الصعب على الادعاء العام إثبات أن الثروة المتراكمة ليس لها مصدر مشروع، خاصة إذا لم توجد التزامات إفصاح دورية شاملة.

الحلول النظامية أو التوصيات

أولًا: الحلول الوقائي

  1. إقرار الذمة المالية الدوري
  • إلزام جميع الموظفين والمسؤولين بالإفصاح الدوري عن ممتلكاتهم وأصولهم المالية.
  • تحديث الإقرارات عند حدوث أي تغييرات كبيرة في الوضع المالي.
  1. تعزيز الرقابة الداخلية والإدارية
  • إنشاء لجان رقابية داخل المؤسسات لمراجعة الصفقات والعقود والتأكد من التزامها بالأنظمة.
  • اعتماد سياسات واضحة للموافقات المالية والتوقيع على العقود الكبيرة.
  1. وضع ضوابط واضحة للمنافع والمكافآت
  • تحديد سقوف مالية للمكافآت والبدلات المسموح بها قانونيًا.
  • منع أي تحويلات مالية أو هدايا خارج نطاق ما يسمح به النظام.
  1. التدريب والتوعية القانونية للموظفين
  • تنظيم دورات وورش عمل لتعريف المسؤولين والمستشارين بالقوانين الخاصة بالإثراء غير المشروع ومخاطرها.
  • نشر أدلة إرشادية للتعامل مع التعارضات المحتملة في المصالح.
  1. الفصل بين المسؤوليات والصلاحيات
  • تطبيق مبدأ الفصل بين اتخاذ القرار المالي والتنفيذ للحد من استغلال النفوذ.
  • منع الشخص نفسه من توقيع العقود أو الموافقة على المعاملات التي قد تعود بالنفع الشخصي.
  1. مراجعة دورية للمعاملات المالية الكبرى
  • إلزام الجهات المالية أو الداخلية بالمراجعة المستمرة للمعاملات المالية الكبيرة والكشف عن أي زيادة غير مبررة.
  • استخدام أدوات تحليلية وتقارير رقمية لرصد التغيرات المفاجئة في الأصول أو الدخل.
  1. تفعيل نظام الشكاوى الداخلية
  • وضع آليات آمنة لتلقي البلاغات عن أي تجاوزات أو محاولات للإثراء غير المشروع.
  • حماية المبلغين وضمان التحقيق السريع في البلاغات.
  1. تعزيز العقوبات الرادعة والتوثيق
  • التأكيد على أن كل مخالفة حتى البسيطة لها إجراءات نظامية واضحة.
  • نشر العقوبات المطبقة على المخالفين كوسيلة للردع وتعزيز الوعي القانوني.

ثانيًا: الحلول التصحيحية

  1. إعادة الأموال أو الأصول المكتسبة بطريقة غير مشروعة
  • إعادة كل الأموال، العقارات، الأسهم، أو الممتلكات التي تم الحصول عليها نتيجة الإثراء غير المشروع إلى الجهة المالكة أو الخزينة العامة.
  • توثيق عملية الإرجاع رسميًا كدليل على التعاون والنية الصافية أمام القضاء.
  1. إجراء تدقيق مالي شامل ومستقل
  • الاستعانة بخبير مالي أو محاسب قانوني لمراجعة كل المعاملات المالية للمتهم خلال الفترة محل الاتهام.
  • تصحيح أي أخطاء أو تجاوزات في الحسابات لضمان الشفافية الكاملة.
  1. إلغاء أو تعديل أي عقود أو معاملات أسفرت عن الإثراء
  • مراجعة جميع العقود أو الصفقات المرتبطة بالزيادة غير المبررة في الثروة وإلغاؤها أو تعديلها وفق القانون.
  • إشعار الجهات المتضررة لتصحيح الحقوق المالية للأطراف الأخرى.
  1. تقديم اعتراف رسمي بالخطأ مع الالتزام بالتصحيح
  • رفع طلب إلى الجهات الرقابية أو النيابة بالاعتراف بالمخالفة مع بيان خطوات تصحيح الوضع.
  • يساعد هذا على تخفيف العقوبة إذا تمت الإجراءات بسرعة وبشفافية.
  1. تعزيز الإفصاح المالي والشفافية المستقبلية
  • تقديم إقرارات مالية دورية وصحيحة للجهات المختصة، تشمل كل ممتلكات وأصول المتهم.
  • الالتزام التام بتعليمات الرقابة المالية والإدارية مستقبلاً.
  1. وضع آليات رقابية داخلية لمنع تكرار المخالفة
  • إنشاء لجان رقابية داخل الجهة أو المؤسسة لمتابعة الأصول والتأكد من عدم استغلال المناصب.
  • تطبيق أنظمة واضحة للحوكمة والرقابة الداخلية على جميع المعاملات المالية.
  1. التعاون مع الجهات الرسمية لتوضيح النية الصافي
  • توفير كل المستندات والبيانات المطلوبة لإثبات أن المخالفة كانت غير مقصودة أو تم تصحيحها فور اكتشافها.
  • المشاركة في برامج توعية أو تدريب داخل المؤسسة لتعزيز الامتثال للنظام 

ثالثًا: الحلول الدفاعية

الحلول الدفاعية الخاصة بمشكلة الإثراء غير المشروع

  1. إثبات التناسب بين الدخل والزيادة في الثروة مثل:
  • إحضار كشوفات رواتب ومكافآت رسمية، وإثبات وجود بدلات أو مزايا وظيفية مسموحة بالنظام.
  • تقديم مستندات عن مكافآت سنوية أو حوافز أداء تمت الموافقة عليها نظامًا من جهة العمل.
  1. تقديم مصادر بديلة للزيادة المالية مثل:
  • عقود بيع عقارات أو أراضٍ تم توثيقها رسميًا.
  • إثبات دخل من استثمارات شخصية (شركات عائلية، أسهم، صناديق استثمارية).
  • تقديم ما يثبت حصوله على هبات أو إرث أو قروض شخصية مشروعة.
  1. الدفع بانعدام العلاقة السببية مع الوظيفة:
  • التأكيد أن الزيادة في الذمة المالية لم تنتج من استغلال الوظيفة، بل من نشاط خارجي مباح.
  • إثبات أن جميع القرارات أو المعاملات المرتبطة بالوظيفة تمت وفق أنظمة المشتريات والعقود الحكومية.
  1. إبراز إقرارات الذمة المالية السابقة:
  • تقديم إقرارات الذمة المالية التي تثبت أن الزيادة كانت معلنة مسبقًا ولم تكن مخفية.
  • الدفع بأن المتهم لم يخفِ أصوله أو أمواله، مما ينفي القصد الجنائي. 
  1. الطعن في تقارير الجهات الرقابية:
  • الاعتراض على طريقة احتساب الفارق المالي في التقارير، وطلب إعادة الفحص عبر لجنة خبراء محاسبين.
  • الإشارة إلى أن التقرير اعتمد على قرائن ظرفية لا ترقى إلى الدليل القاطع.
  1. الدفع بانتفاء عنصر “الزيادة غير المبررة”
  • إثبات أن جميع المبالغ لها تفسير مالي مثبت (فواتير بيع، حوالات موثقة، قروض بنكية بعقود).
  • طلب من المحكمة أن تحدد بدقة: ما هي المبالغ “غير المبررة”؟ ومتى تحققت؟
  1. إثبات حسن النية وعدم الإضرار بالمال العام
  • الدفع بأن جميع الأموال شخصية ولم يترتب عليها أي ضرر بالجهة الحكومية أو المال العام.
  • إبراز أن المتهم لم يمنح نفسه امتيازات، ولم يبرم عقودًا مع جهات لها صلة مباشرة به

الفصل الثالث: الإثراء غير المشروع في الأنظمة السعودية

تبنّى المشرّع السعودي سياسة واضحة تقوم على الردع الاستباقي والمساءلة اللاحقة في مواجهة الإثراء غير المشروع، رغم عدم النص على المصطلح صراحةً في الأنظمة.

وقد تجلى هذا الموقف في عدة ملامح:

  1. تعزيز صلاحيات هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة):
  • منحها الحق في مباشرة التحقيقات، وضبط الجرائم المالية والإدارية، وإحالة القضايا للنيابة العامة.
  • توقيع اتفاقيات مع جهات محلية ودولية لتبادل المعلومات المالية.
  1. الأوامر الملكية:
  • صدرت أوامر سامية تؤكد عدم التسامح مع أي مسؤول يثبت عليه تضخم غير مبرر في ثروته.
  • إلزام بعض الفئات الوظيفية العليا بالإفصاح عن الذمة المالية عند التعيين، وأثناء الخدمة، وبعد انتهائها.
  1. التوجهات الحديثة:
  • إطلاق مبادرات لتقليل التعاملات النقدية وتعزيز المدفوعات الإلكترونية لتقليل فرص الإخفاء.
  • إدراج بند خاص بمكافحة الإثراء غير المشروع ضمن خطط الحوكمة المؤسسية للشركات المدرجة.

الفصل الرابع: دراسة حالة لقضايا الإثراء غير المشروع في المملكة

القضية الأولى: قضية فساد وزارة الدفاع والقطاع العسكري

في عام 2017م أعلنت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) عن ضبط عدد من الضباط والمسؤولين في وزارة الدفاع لقيامهم بالحصول على منافع مالية وعقود توريد بأسعار مبالغ فيها مقابل تسهيل تمرير صفقات عسكرية. وقد اعتبر هذا النوع من الأفعال صورة واضحة للإثراء غير المشروع، لكون المسؤولين حصلوا على أموال وأصول تفوق رواتبهم ومداخيلهم النظامية.

  • الأثر النظامي: هذه القضية أكدت أن الامتيازات الوظيفية لا تمنح حصانة أمام المحاسبة.
  • العقوبة: استرداد الأموال المنهوبة، مع السجن لمدد متفاوتة، إضافة إلى المنع من السفر ومصادرة الممتلكات.

القضية الثانية: قضية ” شركة موبايلي” وإعادة تقييم الأرباح

في عام 2014م تفجرت قضية مالية بارزة تتعلق بشركة موبايلي عندما اكتشفت هيئة السوق المالية السعودية وجود تضخيم في الأرباح ووجود مخالفات محاسبية جسيمة، أدت إلى تحقيق مكاسب غير مشروعة لبعض التنفيذيين والمستثمرين.

  • وجه الإثراء غير المشروع: تضليل المساهمين والجمهور بالمعلومات المالية أتاح للبعض بيع أسهمهم قبل انهيار الأسعار وتحقيق أرباح غير مستحقة.
  • الإجراءات: فرضت هيئة السوق المالية غرامات، وأحالت بعض التنفيذيين إلى لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية.
  • الأثر: هذه القضية عززت الوعي بضرورة الإفصاح الدقيق وحماية المستثمرين من الممارسات التضليلية.

القضية الثالثة: قضية “الرشوة الكبرى” في مشاريع بلدية الرياض

كشفت نزاهة في 2021م عن تورط عدد من المسؤولين ورجال الأعمال في رشاوى بملايين الريالات مرتبطة بمشاريع بلدية وخدمات عامة. تضمنت المخالفات إصدار عقود صورية، وتسهيل ترسية مناقصات مقابل مبالغ مالية وعقارات.

  • الإثراء غير المشروع: المسؤولون حصلوا على أموال وعقارات تفوق بكثير دخولهم المشروعة.
  • العقوبة: السجن لمدد طويلة، والغرامات المالية، مع استرداد الأموال العامة.
  • النتيجة: هذه القضية أبرزت خطورة الرشوة كمدخل رئيسي للإثراء غير المشروع.

القضية الرابعة: قضية “لقطاعات الصحية والتوريد الطبي”

خلال جائحة كورونا (2020م) أعلنت “نزاهة” عن التحقيق مع مسؤولين في وزارة الصحة وموظفين في شركات توريد لقيامهم برفع الأسعار وتلقي عمولات سرية مقابل توفير مستلزمات طبية.

  • الإشكالية: استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب مالية سريعة بطرق غير مشروعة.
  • العقوبات: إلغاء العقود، السجن، والغرامات.
  • الأثر: هذه القضية بيّنت أن الإثراء غير المشروع لا يقتصر على المشاريع الكبرى، بل قد يظهر حتى في أوقات الأزمات الإنسانية.

الخلاصة التحليلية للفصل الرابع

تُظهر هذه القضايا أن الإثراء غير المشروع في المملكة لم يعد مجرد تجاوز إداري أو خلل محاسبي، بل بات يُعامل كجريمة تضرب في جوهر النظام المالي والاقتصادي. وقد اتسمت السياسة السعودية بالحزم عبر:

  • التحقيق الشامل.
  • استرداد الأموال.
  • محاكمة المسؤولين بغض النظر عن مناصبهم.

وهو ما يعكس توجهًا استراتيجيًا نحو حماية النزاهة وتعزيز الثقة بالاقتصاد الوطني 

الفصل الخامس: الجزاءات والعقوبات المقررة للإثراء غير المشروع

العقوبات المقررة على الأفعال التي تشكل إثراءً غير مشروع في النظام السعودي تأتي موزعة على عدة أنظمة:

  • العقوبات الجزائية:
  • السجن الذي قد يصل إلى 10 سنوات في جرائم الرشوة واستغلال النفوذ.
  • الغرامات المالية الكبيرة التي قد تتجاوز قيمة المكاسب غير المشروعة.
  • العقوبات التأديبية:
  • العزل من المنصب.
  • الحرمان من التعيين في الوظائف العامة مستقبلاً.
  • المصادرة واسترداد الأموال:
  • مصادرة جميع الأصول والأرباح الناتجة عن المال غير المشروع.

الفصل السادس: الآثار الاقتصادية والنظامية للإثراء غير المشروع

أولًا: الآثار الاقتصادية

  1. إضعاف الثقة في الاقتصاد الوطني:

عندما تنتشر ممارسات الإثراء غير المشروع، يفقد المستثمرون (محليين وأجانب) ثقتهم في عدالة السوق وشفافيته، مما يؤدي إلى عزوفهم عن ضخ رؤوس الأموال، وبالتالي ضعف تدفقات الاستثمار المباشر وغير المباشر.

  1. تشويه المنافسة العادلة: إذ يتمتع من يحقق ثروات غير مشروعة بقدرة مالية غير متكافئة تُمكّنه من إقصاء المنافسين النظاميين من السوق، مما يؤدي إلى احتكار قطاعات معينة، وتراجع بيئة الأعمال.
  2. زيادة كلفة المشاريع الحكومية والخاصة: لأن الإثراء غير المشروع غالبًا ما يرتبط بالرشاوى والعمولات الخفية، فإن ذلك يرفع تكلفة المشاريع إلى أضعاف قيمتها الحقيقية، مما يرهق ميزانية الدولة والشركات.
  3. إضعاف التنمية المستدامة: الأموال المكتسبة بطرق غير مشروعة غالبًا ما تُحوّل إلى الخارج أو تُستثمر في أنشطة غير إنتاجية (مثل المضاربات العقارية أو غسيل الأموال)، بدلًا من ضخها في مشاريع تنموية تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني.
  1. إهدار المال العام: خاصة في العقود والمناقصات الحكومية، حيث يؤدي تضخم أسعار العقود أو سوء تنفيذها إلى ضياع أموال ضخمة كان يمكن أن تُوجّه نحو مشاريع تنموية حقيقية.

ثانيًا: الآثار النظامية

  1. إضعاف فعالية الأنظمة القائمة:

حين يتمكن البعض من الإثراء بطرق غير مشروعة دون مساءلة رادعة، يفقد النظام الجزائي فعاليته ويُنظر إليه على أنه غير قادر على حماية المصلحة العامة.

  1. تكدس القضايا أمام القضاء:

الإثراء غير المشروع يولّد نزاعات متشابكة بين موظفين عموميين، شركات، ومستثمرين، مما يزيد الضغط على المحاكم واللجان شبه القضائية.

  1. إضعاف مبدأ المساواة أمام النظام:

انتشار الإثراء غير المشروع يعطي انطباعًا بوجود فئة محصنة أو قادرة على الإفلات من العقاب، مما يضر بمبدأ سيادة القانون ويخلق فجوة في العدالة الاجتماعية.

  1. الحاجة لتشديد النصوص النظامية:

يفرض الإثراء غير المشروع على المشرّع إعادة النظر في الأنظمة الحالية (مثل نظام مكافحة الرشوة، نظام غسل الأموال، نظام السوق المالية) لتوسيع نطاق التجريم وتعزيز الردع.

  1. تأثير سلبي على الحوكمة المؤسسية:

إذ يؤدي الإثراء غير المشروع إلى ضعف آليات الرقابة الداخلية في المؤسسات والشركات، ويجعل التقارير المالية عرضة للتلاعب، مما يقلل من مصداقية الإفصاح المالي.

الخاتمة

من خلال الدراسة، يتضح أن الإثراء غير المشروع في المملكة وإن لم يُذكر نصًا في الأنظمة، إلا أن المشرع السعودي وضع منظومة قانونية قوية لمكافحته، عبر تجريم أفعال الرشوة واستغلال النفوذ وتضارب المصالح وغسل الأموال. كما أن التوجهات الحديثة للدولة، خصوصًا عبر هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، تسير نحو سد جميع الثغرات، بما في ذلك إلزامية الإفصاح المالي وتعزيز الرقابة الداخلية.

مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإثراء غير المشروع يمثل ظاهرة مركبة ذات أبعاد قانونية واجتماعية واقتصادية، غير أن أخطر ما فيها هو تقويضها لركائز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. وقد تبين أن المنظم السعودي قد واجه هذه الظاهرة بمنظومة متكاملة تجمع بين التجريم والعقاب من جهة، والوقاية والشفافية من جهة أخرى.

فقد ألزم الموظف العام بالإفصاح عن ذمته المالية، وربط ذلك برقابة دقيقة من الجهات المختصة، وأتاح مساءلته جنائيًا عند ثبوت تضخم ثروته بغير مسوغ مشروع. كما عزز النظام من صلاحيات الجهات الرقابية والقضائية بما يتلاءم مع المعايير الدولية.

إلا أن التحدي الأكبر يظل في التطبيق العملي، إذ يتطلب الأمر تفعيلًا مستمرًا لآليات الرقابة، وتطوير أدوات التتبع المالي، ونشر ثقافة النزاهة داخل مؤسسات القطاعين العام والخاص على السواء.

كما أن التحليل النظامي يبرز أن التصدي للإثراء غير المشروع لا يقوم فقط على العقوبة اللاحقة، وإنما أيضًا على منظومة وقائية تشمل الإفصاح المالي، تعزيز الشفافية، وتفعيل قنوات البلاغات، وهو ما يشكل خط الدفاع الأول لحماية المال العام والاقتصاد الوطني.

ومن جانب آخر، تكشف السوابق القضائية والعقوبات المقررة أن المشرّع السعودي يتجه إلى التشديد التدريجي، ليس فقط عبر الغرامات والسجن، بل أيضًا من خلال العقوبات التبعية مثل 

العزل من الوظائف والمنع من التعاقد مع الجهات العامة، ما يعزز الردع العام ويضمن عدم استفادة الجاني من موقعه مستقبلًا.

وبذلك يمكن القول إن المملكة تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق بيئة قانونية رادعة للإثراء غير المشروع، بما يعزز من مكانتها في مؤشرات النزاهة الدولية، ويحقق أهدافها في حماية المال العام وترسيخ مبادئ العدل والمساواة.

التوصيات الختامية:

  1. على المستوى التشريعي والتنظيمي:
  • إعادة النظر في بعض مواد نظام مكافحة الرشوة ونظام غسل الأموال لتوسيع نطاقها بحيث تشمل صور الإثراء غير المشروع التي قد لا يغطيها النص صراحة.
  •  استحداث نصوص نظامية تُلزم كبار الموظفين العموميين والتنفيذيين في الشركات المملوكة للدولة بتقديم إقرارات ذمة مالية سنوية تُراجع من قبل هيئة الرقابة ومكافحة الفساد.
  •  وضع تعريف نظامي جامع للإثراء غير المشروع يزيل أي لبس فقهي أو قضائي عند تطبيق العقوبات.
  1. على المستوى المؤسسي والرقابي:
  • تعزيز استقلالية الأجهزة الرقابية وضمان تزويدها بالأدوات التقنية الحديثة لرصد أي زيادة غير مبررة في الذمة المالية للمسؤولين.
  • تفعيل آليات التدقيق الداخلي في الأجهزة الحكومية والشركات المدرجة بالأسواق المالية، بحيث يصبح جزءًا إلزاميًا من تقارير الحوكمة السنوية.
  • تقوية قنوات التعاون بين هيئة السوق المالية، وهيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وديوان المحاسبة، بما يحقق تكاملًا في تبادل المعلومات حول أي شبهات ثراء غير مشروع.
  1. على المستوى القضائي:
  • إنشاء دوائر قضائية متخصصة في قضايا الإثراء غير المشروع ضمن المحاكم الجزائية أو الإدارية، مما يسرّع البت ويضمن جودة الأحكام.
  • نشر السوابق القضائية بشكل دوري (بعد تنقيحها من الأسماء والبيانات) لخلق رادع معنوي ولتوضيح اتجاهات القضاء في هذا المجال.
  • تشديد العقوبات التبعية مثل العزل من المناصب، المنع من التعاقدات الحكومية، وإلزام الجاني برد الأموال محل الإثراء إلى الخزينة العامة.
  1. على المستوى المجتمعي والإعلامي:
  • نشر الوعي العام بمخاطر الإثراء غير المشروع عبر المناهج الدراسية والبرامج التوعوية، وربطه مباشرة بضعف التنمية وارتفاع معدلات الفساد.
  • حماية المبلغين عن قضايا الإثراء غير المشروع بنصوص صريحة تكفل السرية وتمنع الانتقام الوظيفي أو الاجتماعي ضدهم.
  • الاستفادة من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في حملات توعوية تبين خطورة الظاهرة وأثرها على العدالة الاجتماعية.
  1. على المستوى الاقتصادي والإداري
  • ربط مكافحة الإثراء غير المشروع بتحقيق أهداف رؤية السعودية 2030 في بناء اقتصاد قائم على الشفافية والنزاهة.
  • تطوير آليات الإفصاح المالي في الشركات العائلية والمدرجة، بحيث تشمل الشركاء المؤثرين وأعضاء مجالس الإدارة، منعًا لأي تضخم غير مبرر في الثروات.
  • إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة لمتابعة الذمة المالية للمسؤولين التنفيذيين وكبار الموظفين العموميين بشكل دوري، مع إمكانية المراجعة عند وجود شبهة.

المراجع والمصادر

أحكام ديوان المظالم والجزائية المتخصصة في قضايا الفساد (2018–2023م)

هيئة الخبراء بمجلس الوزراء. (2015). نظام مكافحة الرشوة (الإصدار الأخير). المملكة العربية السعودية. https://laws.boe.gov.sa.

هيئة الخبراء بمجلس الوزراء. (2011). نظام حماية النزاهة ومكافحة الفساد. المملكة العربية السعودية. https://laws.boe.gov.sa.

هيئة الخبراء بمجلس الوزراء. (2017). نظام مكافحة غسل الأموال. المملكة العربية السعودية. https://laws.boe.gov.sa.

هيئة الرقابة ومكافحة الفساد. (2023). إحصاءات وقضايا منشورة حول مكافحة الفساد في المملكة العربية السعودية. https://nazaha.gov.sa.

وزارة العدل. (2023). الأحكام القضائية المنشورة في بوابة وزارة العدل. المملكة العربية السعودية. https://www.moj.gov.sa.

الأمر السامي رقم (أ/277) بتاريخ 15/4/1441هـ، بشأن تعزيز إجراءات الإفصاح المالي للمسؤولين العموميين. (2019). المملكة العربية السعودية.

د. خالد الشافي، الإثراء بلا سبب في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، مكتبة الرشد، 2014م.

د. عبد الله العجلان، الفساد الإداري والمالي: دراسة نظامية مقارنة، جامعة نايف، 2015م.

د. عادل الطويان، جرائم الفساد والإثراء غير المشروع: دراسة تحليلية، جدة، 2020م.

هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة)، التقارير السنوية، أعوام مختلفة.

خالد العنزي، “جريمة الإثراء غير المشروع في النظام السعودي”، مجلة العدالة السعودية، 2021م.

أكتب تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *