الانتهاكات القانونية للذوق العام: بين العقوبة والوقاية

30 أكتوبر, 2025

المقدمة

يُعد الذوق العام من الركائز الأساسية لبناء المجتمع وتماسكه، إذ يعكس منظومة القيم والسلوكيات التي تحكم تعامل الأفراد في الأماكن العامة. ويجسد احترام الإنسان لذاته ولمجتمعه وقد أظهرت المملكة العربية السعودية اهتماماً كبيراً بهذا الجانب، فأصدرت لائحة المحافظة على الذوق العام بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (444) لعام 1440ه لتنظيم السلوك في الأماكن العامة وضبط المظاهر المخالفة، بما يحقق التوازن بين الحرية الشخصية وحماية القيم المجتمعية المستمدة من الشريعة الإسلامية.

تظهر أهمية حماية الذوق العام باعتباره قيمة اجتماعية وقانونية، فمن الناحية الاجتماعية يعزز روح التعايش والاحترام المتبادل ويحد من السلوكيات المسيئة والعشوائية. أما من الناحية القانونية فيمثل احترام الذوق العام تطبيقاً لمبدأ سيادة النظام وضماناً لاستقرار المجتمع وحماية خصوصيته بما ينسجم مع أهداف “رؤية 2030” في بناء مجتمع حضاري يحترم القيم والأعراف. تتبع مبررات هذه الدراسة من زاوية المتهم من أهمية تحقيق العدالة والتناسب وضمانات المحاكمة العادلة عند تطبيق أحكام لائحة الذوق العام.

  • العدالة: تقتضي أن يعامل جميع الأفراد على المساواة أمان النظام دون تمييز أو اجتهاد شخصي، وأن تكون الإجراءات والعقوبات مبنية على أسس نظامية واضحة تضمن نزاهة التطبيق وثقة المجتمع بالقضاء.
  • التناسب: يقتضي أن تكون العقوبة متناسبة مع طبيعة الفعل المرتكب ودرجة خطورته، بحيث لا تكون مفرطة أو قاسية بما يتجاوز الغاية الإصلاحية والردعية، تحقيقاً للتوازن بين حماية المصلحة العامة وصون حقوق الأفراد. 
  • ضمانات المحاكمة العادلة: تشمل تمكين المتهم من معرفة التهم الموجهة إليه، وحقه في الدفاع والتظلم، وعلنية الإجراءات ونزاهتها بما يضمن حماية الحقوق الأساسية للإنسان ويُعزز الثقة في عدالة النظام القضائي.

وبذلك تسعى الدراسة إلى بيان أهمية تطبيق نظام الذوق العام في إطار يحقق الردع والوقاية دون الإخلال بحقوق المتهم أو المساس بكرامته. تعتمد الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي لتحليل النصوص النظامية ذات الصلة بلائحة الذوق العام وتفسيرها في ضوء مبادئ العدالة والحقوق الأساسية. 

الفصل الأول: الإطار النظامي لمفهوم الذوق العام

المبحث الأول: تطور مفهوم الذوق العام في النظام السعودي

  • النشأة والمصادر الشرعية والنظامية للمفهوم.
  1. النشأة: نشأ مفهوم الذوق العام في المملكة العربية السعودية نتيجة الحاجة إلى تنظيم سلوك الأفراد في الأماكن العامة بما يحفظ النظام الاجتماعي ويعكس القيم الدينية والثقافية. تطوير هذا المفهوم تدريجياً مع نمو المجتمع وزيادة التفاعل بين أفراده، ليصبح جزءاً أساسياً من الحفاظ على الانضباط والنظام العام.
  2. المصادر الشرعية: يستند الذوق العام إلى الشريعة الإسلامية التي ترسخ مبادئ الأخلاق والآداب العامة وتحث على احترام الاخرين والالتزام بالسلوكيات التي لا تخل بالنظام العام، فالمبادئ الشرعية تشكل الأساس الأخلاقي الذي يوجه سلوك الأفراد ويحدد حدود المقبول في المجتمع.
  3. المصادر النظامية: تم تعزيز مفهوم الذوق العام قانونياً عبر لائحة المحافظة على الذوق العام الصادر بقرار مجلس الوزراء رقم (444) لعام 1440ه، والتي تحدد السلوكيات المخالفة للعادات والآداب العامة وتضع العقوبات المترتبة عليها. كما تكمل هذه اللائحة بعض الأنظمة واللوائح الأخرى، مثل النظام الجزائي العام ولوائح المرافق العامة، مما يوفر إطاراً قانونياً واضحاً لتطبيق الذوق العام وحماية النظام الاجتماعي.
  • الفرق بين الذوق العام والآداب العامة.

على الرغم من الترابط بين الذوق العام والآداب العامة، إلا أن هناك فروقاً واضحة بينهما: 

  1. الذوق العام: 
  • يركز على السلوكيات والمظاهر المقبولة في الأماكن العامة، ويهدف إلى حماية النظام الاجتماعي وصورة المجتمع أمام الاخرين، ويطبق قانونياً عبر اللوائح.
  1. الآداب العامة: 
  • مجموعة القواعد الأخلاقية والسلوكية التي تنظم العلاقات بين الأفراد سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، وتشكل الأساس الأخلاقي للذوق العام.

باختصار يمكن القول إن الآداب العامة تمثل الأساس الأخلاقي والسلوكي بينما الذوق العام يمثل التطبيق العملي لهذه القيم في الأماكن العامة ويصبح قابلاً للرقابة القانونية.

  • النصوص النظامية ذات العلاقة.
  1. لائحة المحافظة على الذوق العام.

تعد لائحة المحافظة على الذوق العام الصادر بقرار مجلس الوزراء رقم (444) بتاريخ 1440ه.

 بالنص الأساسي الذي ينظم السلوكيات في الأماكن العامة. تحدد اللائحة السلوكيات المعتبرة مخالفة للذوق العام، مثل التصرفات الفظة أو المظهر غير اللائق أو أي سلوك يمس القيم الاجتماعية والدينية وتحدد العقوبات المترتبة عليها، سواء كانت مالية أو تأديبية، وتوضح مسؤولية الجهات المختصة في الرقابة والتنفيذ.

نصت المادة (1) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه لأغراض تطبيق هذه اللائحة، يقصد بالعبارات والألفاظ الآتية المعاني الواردة أمام كل منها، ما لم يقتضِ السياق غير ذلك:

  1. اللائحة: لائحة المحافظة على الذوق العام.
  2. الذوق العام: مجموعة السلوكيات والآداب التي تعبر عن قيم المجتمع ومبادئه وهويته، بحسب الأسس والمقومات المنصوص عليها في النظام الأساسي للحكم.
  3. الأماكن العامة: المواقع المتاح ارتيادها للعموم مجاناً أو بمقابل من الأسواق، والمجمعات التجارية، والفنادق، والمطاعم، والمقاهي، والمتاحف، والمسارح، ودور السينما، والملاعب، ودور العرض، والمنشآت الطبية والتعليمية، والحدائق، والمتنزهات، والأندية، والطرق، والممرات، والشواطئ، ووسائل النقل المختلفة، والمعارض، ونحو ذلك.
  4. نظام العقوبات الجزائية

يساهم النظام الجزائي العام في دعم تطبيق الذوق العام حيث يقر العقوبات على المخالفات التي تمس النظام العام أو تمثل تعدياً على حقوق الاخرين، بما في ذلك الجرائم المتعلقة بالآداب العامة والفضاء الاجتماعي. ويكمل هذا النظام اللوائح الخاصة بالذوق العام من خلال توفير أساس قانوني للجزاءات وتأصيل مفهوم المسؤولية القانونية للمخالفين.

نصت المادة (8) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد مقررة نظاماً؛ توقع غرامة مالية على كل من يخالف أيَّا من الأحكام الواردة في اللائحة بما لا يتجاوز (خمسة) آلاف ريال، وفقاً لجدول تصنيف المخالفات المنصوص عليه في المادة (التاسعة) من اللائحة، ويضاعف مقدار الغرامة في حال تكرار المخالفة نفسها خلال (سنة) من تاريخ ارتكابها للمرة الأولى.

  1. الأنظمة واللوائح المساندة

هناك عدة أنظمة ولوائح مساندة تساعد في تطبيق مفهوم الذوق العام منها: 

  • نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية: – نشر شخص مقطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتضمن ألفاظاً خادشة للحياء العام. مما أدى إلى مخالفته للذوق العام، وأحيل الشخص للنيابة العامة استناداً إلى المادة من نظام الجرائم المعلوماتية، لأن الفعل يمس الآداب العامة. 

نصت المادة (6) من نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، على أنه يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تزيد على ثلاثة ملايين ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل شخص يرتكب أيا من الجرائم المعلوماتية الآتية:

  1. إنتاج ما من شأنه المساس بالنظام العام، او القيم الدينية، أو الآداب العامة، أو حرمة الحياة الخاصة، أو إعداده، أو إرساله، أو تخزينه عن طريق الشبكة المعلوماتية، أو أحد أجهزة الحاسب الآلي.
  • نظام المطبوعات والنشر: – تمت معاقبة جهة إعلامية بثت إعلاناً يُعد مسيئاً للحياء العام عبر شاشة عامة في أحد المجمعات التجارية. ربطت المخالفة بمخالفة لائحة الذوق العام وبالمادة التاسعة من نظام المطبوعات والنشر لكونها إخلالاً بالآداب العامة.

نصت المادة (9) من نظام المطبوعات والنشر، على أنه يلتزم كل مسؤول في المطبوعة بالنقد الموضوعي والبناء الهادف إلى المصلحة العامة، والمستند إلى وقائع وشواهد صحيحة. ويحظر أن ينشر بأي وسيلة كانت أي مما يأتي:

  1. ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة.
  2. ما يدعو إلى الإخلال بأمن البلاد أو نظامها العام، أو ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية.
  3. التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة.
  4. إثارة النعرات وبث الفرقة بين المواطنين.
  5. تشجيع الإجرام أو الحث عليه.
  6. ما يضر بالشأن العام في البلاد.
  7. وقائع التحقيقات أو المحاكمات، دون الحصول على إذن من الجهة المخولة نظامًا”.

يجمع هذا الإطار القانوني بين النصوص المباشرة والأنظمة المساندة لضمان حماية الذوق العام وتطبيقه بطريقة متكاملة في المجتمع السعودي، مع مراعاة العدالة وحماية حقوق الأفراد.

المبحث الثاني: الجهات المختصة بتطبيق نظام الذوق العام

  • وزارة الداخلية (الأمن العام) ودورها في الضبط.

يقوم الأمن العام بمراقبة الالتزام بالذوق العام في الأماكن العامة ويشمل دوره:

  • رصد المخالفات والتصرفات غير اللائقة.
  • التدخل الفوري وتوجيه الإنذارات أو إحالة المخالفين للإجراءات القانونية.
  • تنفيذ العقوبات المقررة في لائحة الذوق العام والنظام الجزائي.
  • المساهمة في الحملات التوعوية لتعزيز الالتزام بالذوق العام.

نصت المادة (9) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه تتولى وزارة الداخلية بالاشتراك مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني والجهات الأخرى ذات العلاقة تصنيف المخالفات، وتحديد الغرامات المالية المقابلة لكل منها، وفق جدول تعده لهذا الغرض ويصدر بقرار من وزير الداخلية.

  • النيابة العامة في توصيف الفعل المخالف.

تلعب النيابة العامة دوراً محورياً في توصيف الأفعال المخالفة للذوق العام ضمن الإطار القانوني حيث تقوم:

  1. استلام البلاغات والمخالفات:
  • استقبال تقارير المخالفات التي ترد من الأمن العام أو البلديات أو الجهات المختصة الأخرى.
  1. تحليل الفعل ومطابقته للقانون:
  • دراسة الأفعال المبلغ عنها، وتحديد ما إذا كانت تنطبق عليها أحكام لائحة الذوق العام أو النظام الجزائي العام.
  1. اتخاذ القرار القانوني:
  • إصدار التوجيهات اللازمة بشأن رفع الدعوى أو إحالة المخالف إلى المحكمة المختصة أو اتخاذ أي إجراء قانوني مناسب وفق نصوص اللوائح.
  1. ضمان سير العدالة:
  • التأكد من تطبيق العقوبات بشكل قانوني وعادل مع مراعاة حقوق الأفراد وإجراءات المحاكمة العادلة.

وقالت النيابة العامة في منشور عبر منصة “إكس”، على أنه يجب على كافة المقيمين في المملكة العربية السعودية: –

  1. الالتزام بالأنظمة.
  2. مراعاة قيم المجتمع السعودي.
  3. احترام تقاليده ومشاعرة. 

نصت المادة (41) من نظام الحكم، على أنه أن يلتزم المقيمون في المملكة العربية السعودية بأنظمتها وعليهم مراعاة قيم المجتمع السعودي واحترام تقاليده ومشاعرة.

  • دور القضاء في ترسيخ المبادئ التفسيرية.

يلعب القضاء دوراً أساسياً في تفسير نصوص لائحة الذوق العام والأنظمة ذات الصلة بما يضمن وضوح التطبيق وحقوق الأفراد ويتمثل دوره في:

  1. تفسير نصوص القانون واللائحة:
  • توضيح نطاق الأفعال المخالفة للذوق العام وتحديد الحدود القانونية لكل سلوك.
  1. تطبيق مبادئ العدالة والتناسب:
  • التأكد من أن العقوبة المقررة تتناسب مع الفعل المرتكب، مع مراعاة حقوق الأفراد والضمانات القانونية.
  1. ترسيخ الاجتهاد القضائي:
  • وضع سوابق قضائية تساهم في توحيد فهم وتطبيق اللوائح والأنظمة المتعلقة بالذوق العام.
  1. حماية النظام العام مع صون الحقوق الفردية:
  • الموازنة بين حماية المجتمع والحفاظ على الحريات والحقوق الأساسية للأفراد.

الفصل الثاني: الركن المادي والمعنوي لمخالفة الذوق العام

المبحث الأول: الركن المادي للانتهاك

  • تحديد الأفعال المجرّمة.

منذ إقرار لائحة الذوق العام لعام 2019، رسخت السعودية إطاراً نظامياً يحكم السلوكيات في الأماكن العامة بوصفها معياراً حضارياً يحافظ على صورة المجتمع ويعزز قيم الانضباط. وتتضمن اللائحة 19 مخالفة يعاقب مرتكبها بغرامات مالية تبدأ من 50 ريالًا وتصل إلى 3 آلاف ريال، من بينها ارتداء الملابس غير اللائقة أو التي تحمل عبارات مسيئة أو رموزاً عنصرية، وكذلك إشعال النار في غير الأماكن المخصصة، أو تخطي طوابير الانتظار، أو استخدام الإضاءات المؤذية كالليزر. كما يشمل النظام تصوير الأشخاص دون إذنهم أو تصوير الحوادث الجنائية والمرورية من دون موافقة أطرافها، باعتبارها مخالفات تستوجب الغرامة وحذف الصور.

  • جدلية “العلنية “في المخالفة: متى يتحقق الظهور العام؟

تُعد العلنية عنصراً جوهرياً في تحقق مخالفة الذوق العام، إذ لا يتصور قيام الانتهاك إلا إذا وقع الفعل في مكان عام أو في موضع ظاهر للناس. ويتحقق الظهور العام متى كان السلوك قابلاً لأن يراه أو يسمعه الاخرون، سواء تم بشكل مباشر أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تظهر الفعل للعموم. وتكمن الجدلية في تحديد الحدود الفاصلة بين الفعل الخاص والفعل العلني، فالسلوك الذي يقع في نطاق خاص لا يُعد انتهاكاً للذوق العام ما لم ينشر أو يعرض للناس فيتحول إلى فعل علني. وبذلك يربط تحقق المخالفة بمدى انكشاف السلوك للغير وتأثيره في النظام الاجتماعي العام.

  • مقارنة مع مبدأ حرية الشخصية.

يقوم الركن المادي لانتهاك الذوق العام على صدور فعل ظاهر في الأماكن العامة يخل بما استقر عليه المجتمع من قيم وسلوكيات مقبولة، كالتصرفات، أو المظاهر غير اللائقة. ويقابله مبدأ حرية شخصية الذي يكفله النظام الأساسي للحكم، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة إذ تتقيد بعدم الإضرار بالغير أو المساس بالنظام والذوق العام، وبذلك يتحقق التوازن بين حرية الفرد ومسؤوليته في احترام القيم المجتمعية.

عن ابن تيمية في مجموع الفتاوى، يوضح ابن تيمية أن الحرية الشخصية لا تكون مطلقة، بل يجب أن تتوازن مع مصلحة الفرد والمجتمع وأن تُقيد بما يحقق النفع العام ويمنع الضرر.

المبحث الثاني: الركن المعنوي (القصد والنية)

  • هل يشترط قصد الإخلال بالذوق العام؟

يتمثل الركن المعنوي في توافر القصد أو النية عند ارتكاب الفعل المخالف للذوق العام، أي إدراك الفاعل لطبيعة سلوكه ومخالفته للقيم أو اللوائح المنظمة. إلا أن قصد الإخلال بالذوق العام ليس شرطاً لازماً دائماً لتحقق المخالفة فبعض الأفعال، تُعد مخالفة بمجرد وقوعها علناً حتى وإن لم يكن القصد منها الإخلال أو الإساءة، وذلك لأنها تحدث أثراً عاماً يمس المجتمع أو النظام العام. ومع ذلك يراعى عنصر النية عند تقرير العقوبة إذ يخفف الحكم في حال عدم توافر القصد الجنائي أو إذا كان الفعل ناتجاً عن جهل غير متعمد أو تصرف عفوي لا يحمل نية الإساءة.

  • حالات الخطأ غير المقصود وسوء الفهم الثقافي.

قد تنشأ بعض المخالفات الذوق العام نتيجة الخطأ غير المقصود أو سوء الفهم الثقافي لا بسبب نية الإخلال أو الإساءة. فقد يرتكب الفرد سلوكاً يُعد مخالفاً في المجتمع السعودي بينما يراه مقبولاً في ثقافته أو بيئته السابقة خصوصاً مع تنوع الجنسيات والثقافات داخل المملكة العربية السعودية. 

في هذه الحالات يراعى عنصر القصد عند تقدير المخالفة والعقوبة حيث تميل الجهات المختصة إلى التنبيه أو التوعية أولاً بدلاً من العقاب الفوري، متى ما تبين أن الفعل ناتج عن جهل بالأنظمة أو اختلاف ثقافي لا يحمل نية الإساءة. ويعكس هذا التوجه عدالة النظام السعودي الذي يوازن بين تطبيق اللوائح وحماية الحقوق الفردية مع مراعاة السياق الثقافي والاجتماعي لكل حال.

  • عبء الإثبات من وجهة نظر المتهم: النية أم النتيجة؟

يقوم الركن المعنوي في مخالفة الذوق العام على إدراك الفاعل لطبيعة سلوكه ومخالفته لما استقر عليه المجتمع من قيم وآداب عامة، إلا أن قصد الإخلال لا يشترط دائماً لقيام المسؤولية إذ يكفي أن يتحقق الفعل المخل علناً 

بما يؤثر على النظام الاجتماعي أو مشاعر الاخرين. أما من جهة نظر المتهم فيدور عبء الإثبات حول النية أم النتيجة فالنتيجة الظاهرة هي الأساس في ثبوت المخالفة، بينما يظل للمتهم الحق في إثبات حسن نيته أو أن فعله كان غير مقصود أو ناتجاً عن جهل أو اختلاف ثقافي، تحقيقاً للتوازن بين حماية الذوق العام وضمان العدالة في تقدير القصد.

الفصل الثالث: العقوبة والانضباط النظامي لمخالفات الذوق العام

المبحث الأول: العقوبات المقررة في اللائحة

  • أنواع العقوبات:

تنص لائحة الذوق العام على عدة أنواع من العقوبات لضبط السلوك في الأماكن العامة، أهمها:

  • الغرامة المالية: غرامة مالية تفرض على المخالف تبلغ (5000) ريال، مع إمكانية مضاعفتها عند التكرار.
  • الإحالة إلى الجهات المختصة: في حال المخالفات الخطيرة أو المتكررة يتم إحالة المخالف إلى النيابة العامة أو الجهات القضائية لاتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة. 
  • التكرار ومضاعفة العقوبة: يُعتبر تكرار المخالفة عاملاً مضاعفاً في تحديد العقوبة، حيث يمكن للجهات المختصة زيادة الغرامة أو تشديد العقوبة بما يحقق الردع والالتزام بالنظام.

ويعكس هذا التصنيف المرونة في التطبيق بين الردع العاجل، والإنذار، والحفاظ على التناسب بين الفعل والعقوبة.

نصت المادة (8/1) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه توقع غرامة مالية على كل من يخالف أياً من الاحكام الواردة في اللائحة بما لا يتجاوز (خمسة آلاف) ريال، وفقاً لجدول تصنيف المخالفات المنصوص عليه في المادة (التاسعة) من اللائحة، ويضاعف مقدار الغرامة في حال تكرار المخالفة نفسها خلال (سنة) من تاريخ ارتكابها للمرة الأولى.

  • سلطة الجهة الإدارية في تقدير العقوبة.

تُعتبر وزارة الداخلية السعودية هي المسؤولة الأولى عن تطبيق القانون العام الخاص بالذوق العام، وذلك بالتعاون مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. حيث تسعى الجهات المختصة لمحاربة وإبادة أي تصرف غير أخلاقي ينافي قانون الذوق العام المعمول به في المملكة العربية السعودية. كما أنه تتمتع الجهة المختصة بسلطة تقديرية في تحديد نوع العقوبة وشدتها ضمن حدود المقررة في لائحة الذوق العام. 

تشمل هذه السلطة:

  • تقدير قيمة الغرامة المالية بما يتناسب مع درجة المخالفة وخطورتها.
  • تحديد ما إذا كان الفعل يستدعي إحالة المخالف للنيابة العامة أو الاكتفاء بالتنبيه.
  • مراعاة عناصر التخفيف أو التشديد، مثل تكرار المخالفة أو وجود خطأ غير مقصود.

ويقصد بهذه السلطة توفير مرونة تطبيق العقوبات بما يحقق العدالة والتناسب بين الفعل والعقوبة، مع ضمان الالتزام بالنظام وحماية الذوق العام.

نصت المادة (7) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه يحدد وزير الداخلية بالتنسيق مع رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني والجهات الأخرى ذات العلاقة جهات الضبط الإداري المعنية بتطبيق أحكام اللائحة، والآليات المناسبة لإيقاع العقوبات، وله تخويل صلاحية مباشرة أعمال الضبط الواردة في اللائحة أو بعض منها إلى شركات الحراسات الأمنية الخاصة المرخصة، وفقاً لضوابط يصدرها.

  • مبدأ التناسب بين المخالفة والعقوبة.

يُعد مبدأ التناسب ركيزة أساسية في تطبيق عقوبات الذوق العام، إذ يقتضي أن تكون العقوبة متناسبة مع طبيعة الفعل المرتكب وخطورته. فالمبدأ يهدف إلى ضمان ألا تكون العقوبة مفرطة أو قاسية بما يتجاوز الغاية الإصلاحية والردعية، كما يراعي الفرق بين المخالفة العمدية والخطأ غير المقصود أو سوء الفهم الثقافي. ويحقق هذا التوازن العدالة بين حماية النظام العام والمجتمع من جهة، وحقوق الفرد وحريته من جهة أخرى بما يعزز ثقة المجتمع في نزاهة وموضوعية تطبيق اللوائح المتعلقة بالذوق العام.

المبحث الثاني: الضمانات النظامية للمتهم

  • الحق في الاعتراض والتظلم.

يكفل النظام السعودي للمتهم في مخالفات الذوق العام الحق في الاعتراض والتظلم كضمانة أساسية لتحقيق العدالة. فيجوز للمخالف الاعتراض على قرار الجهة الإدارية أو العقوبة الصادرة خلال المدة النظامية أمام الجهات القضائية المختصة أو ديوان المظالم.

ويهدف هذا الحق إلى مراجعة مدى صحة القرار وتناسب العقوبة مع الفعل المرتكب، وضمان أن يتم تطبيق اللائحة في إطار من الحياد والعدالة. وبذلك يُعد حق التظلم أحد مظاهر حماية الحقوق الفردية ووسيلة لتحقيق الرقابة القضائية على القرارات الإدارية في قضايا الذوق العام.

  • دور النيابة العامة في الرقابة على سلامة الإجراءات.

النيابة العامة بدورها الأساسي في الرقابة على سلامة الإجراءات النظامية المتعلقة بمخالفات الذوق العام، إذ تتولى مراجعة محاضر الضبط والتأكد م صحة تطبيق الأنظمة والتعليمات. كما تتحقق من مشروعية الإجراءات التي اتخذتها الجهات الإدارية، وضمان عدم المساس بحقوق الأفراد أو تجاوز حدود السلطة أثناء التحقيق أو توقيع العقوبة. ويهدف هذا الدور إلى تحقيق العدالة الإجرائية وضمان أن تكون جميع الإجراءات مبنية على أسس نظامية صحيحة، بما يعزز الثقة في العدالة وسيادة القانون في تطبيق لائحة الذوق العام.

  • مبدأ المشروعية والعلانية في إصدار القرارات.

يقوم مبدأ المشروعية على أن تصدر جميع القرارات والعقوبات المتعلقة بمخالفات الذوق العام استناداً إلى نص نظامي صريح، بحيث لا تُفرض أي عقوبة أو إجراء إلا وفق ما نصت عليه اللوائح والأنظمة المعتمدة.

أما مبدأ العلانية أن تكون القرارات واضحة ومتعلقة للعموم، سواء من خلال نشر الأنظمة أو توضيح العقوبات المقررة للمخالفات بما يضمن على الأفراد بالقواعد المنظمة لسلوكهم في الأماكن العامة. 

ويهدف هذان المبدأن إلى تحقيق الشفافية والعدالة وضمان عدم تعسف الجهة الإدارية في تطبيق العقوبات أو تجاوز حدود النظام.

الفصل الرابع: الإشكاليات التطبيقية من وجهة نظر المتهم

المبحث الأول: غموض المعايير في توصيف المخالفة

  • اتساع مفهوم “ما يخدش الذوق العام”.

يُعد مفهوم ما يخدش الذوق العام من المفاهيم المرنة والمتغيرة التي تتأثر بطبيعة المجتمع وقيمه وثقافته السائدة. فالمعيار لا يقوم على نص جامد، بل على تقدير اجتماعي واخلاقي يختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف الثقافية. وقد أدى هذا الاتساع إلى منح الجهة الإدارية والقضائية سلطة تقديرية واسعة في تحديد ما يُعد إخلالاً بالذوق العام، مع ضرورة أن يستند التقدير إلى أعراف المجتمع الدينية والوطنية لا إلى الانطباعات الشخصية. ويُظهر هذا الاتساع أهمية التوازن بين حماية القيم العامة وصون الحريات الفردية، لضمان عدم إساءة استخدام المفهوم أو التوسع فيه على نحو يقيد السلوك المشروع.

ومن أنواع ما يخدش الذوق العام: 

  • إشعال النيران.
  • ارتداء الملابس غير اللائقة.
  • كتابة أو رسم على الجدران.
  • تصوير الأشخاص دون إذنهم.
  • إضرار الآخرين أو تعريضهم للخطر.

نصت المادة (4) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه لا يجوز الظهور في مكان عام بزي أو لباس غير محتشم أو ارتداء زي أو لباس يحمل صوراً أو أشكالاً أو علامات أو عبارات تسئ إلى الذوق العام.

نصت المادة (5) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه لا تجوز الكتابة أو الرسم أو ما في حكمهما على جدران مكان عام، أو أي من مكوناته، أو موجوداته، أو أي من وسائل النقل؛ ما لم يكن مرخصاً بذلك من الجهة المعنية.

نصت المادة (6) من نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، على أنه لا يسمح في الأماكن العامة بأي قول أو فعل فيه إيذاء لمرتاديها، أو إضرار بهم، أو يؤدي إلى إخافتهم أو تعريضهم للخطر.

  • التفاوت في التقدير بين الجهات التنفيذية.

يُلاحظ أحياناً وجود تفاوت في تقدير الأفعال المخالفة للذوق العام بين الجهات التنفيذية المختلفة، نتيجة اختلاف الاجتهاد في تفسير النصوص النظامية أو تنوع البيئات الاجتماعية والثقافية بين المناطق. فما قد يُعتبر إخلالاً بالذوق العام في جهة ما، قد لا يُنظر إليه بالصرامة نفسها في جهة أخرى، مما يخلق عدم اتساق في التطبيق العملي للعقوبات. ويبرز الحل في توحيد المعايير والإجراءات التفسيرية وتكثيف التدريب والتوعية للجهات المختصة، بما يضمن تطبيقاً عادلاً ومنسجماً للائحة الذوق العام على مستوى المملكة العربية السعودية.

  • أثر الغموض على العدالة القانونية.

إن الغموض يفتح المجال لاختلاف التقدير بين الجهات، وقد يؤدي إلى عدم المساواة في تطبيق العقوبات أو المساس بحقوق الأفراد نتيجة التفسير الواسع أو الشخصي للنصوص. ولتحقيق العدالة القانونية ينبغي توضيح المفاهيم والمعايير في اللوائح التنفيذية وتقييد السلطة التقديرية بحدود واضحة، بما يضمن الشفافية والاتساق في تطبيق النظام ويحافظ على ثقة المجتمع في العدالة.

المبحث الثاني: التداخل مع الحريات الشخصية وحرية التعبير

  • التوازن بين الذوق العام والحرية الفردية.

يمثل الذوق العام أحد الأسس التي يقوم عليها التعايش المجتمعي في المملكة العربية السعودية، حيث يهدف إلى حماية القيم والأعراف السائدة وضمان الاحترام المتبادل في الأماكن العامة. 

وفي المقابل تُعد الحرية الشخصية وحرية التعبير من الحقوق المكفولة لكل فرد بموجب النظام الأساسي للحكم والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة بشرط ألا تستخدم هذه الحريات بما يخل بالنظام العام أو يسيء إلى الأخرين. ويظهر التداخل بين المفهومين في المساحة التي يلتقي فيها السلوك الفردي العلني مع المعايير الاجتماعية فالتصرف الذي يمارس ضمن الخصوصية الشخصية لا يُعد إخلالاً بالذوق العام بينما إذا تم علناً وأثر في الذوق العام للمجتمع جاز تقييده أو معاقبته وفق اللائحة. 

يتحقق التوازن المطلوب عندما تمارس الحريات في إطار منضبط بالقيم الدينية والاجتماعية مع التزام الجهات الإدارية بعدم التوسع في تفسير النصوص بما يضيق على الأفراد دون مبرر نظامي. وبذلك يصان الذوق العام دون المساس بحقوق الإنسان الأساسية، فيجمع النظام بين حماية المجتمع والحفاظ على الحرية الفردية باعتبارهما ركيزتين متكاملتين للعدالة الاجتماعية.

  • حالة عملية أُثيرت إعلاميًا أو قضائيًا.
  • الجانب الرقمي المهم الذي باتت فيه منصات التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من معظم تفاصيل حياتنا اليومية، ومع أنه يحمل لنا الكثير من الفوائد التي يمكن الاستفادة منها إيجابياً في حياتنا، إلا أنها أفرزت واقعاً وفكراً جديداً يتطلب منا وقفة تأمل حقيقية لهذا الفضاء الرقمي المتطور بشكل سريع. 

كما أن الجميع لاحظ مؤخراً انتشار المجتمعات أو الصفحات الرقمية سواء في مجتمعنا أو في المجتمعات الأخرى، وقد حولت محتواها من النقاش العادي والتفاعلي بين بعضها البعض إلى نقاشات تحمل طابع الفوضى، وأصبحت هذه المجموعات الرقمية تستخدم مساحاتها في ترويج أفكار تتعارض مع القيم والمبادئ المجتمعية، وشكلت مجتمعاً يتحدث في الكثير من الموضوعات والمجالات المختلفة. وفي الحقيقية هنا تبرز أهمية دمج مفاهيم حرية التعبير والتربية الإعلامية والمسؤولية المجتمعية في المناهج التعليمية، والتفكير بأن تكون جزءًا في السياسات الشبابية من خلال القنوات الرسمية، كما يجب أن يكون لقطاع المجتمع المدني والمراكز التعليمية والجهات المؤثرة في البلد دور أساس ليوصلنا هذا التفكير الإيجابي إلى تنفيذ مشروع وطني يهتم بهذا الشأن المجتمعي المهم. ولا ننسى الدور الكبير للأسرة في عملية التوجيه وزرع الأفكار الإيجابية لدى أفراد الأسرة. أخيرًا، نحن لسنا ضد حرية التعبير، ولكن نحن مع بيئة حرة ومسؤولة تحترم الرأي وتنشر المحتويات المفيدة وتعزز الثوابت والقيم الوطنية، وأن نستخدم الأدوات الرقمية في بناء المجتمع والوطن.

  • تحليل لآراء فقهية وقضائية في هذا التوازن.

تناولت الأدلة الفقهية والقضائية مسألة التوازن بين حماية الذوق العام وصون الحريات الفردية من زوايا متعددة. فمن الجانب الفقهي يؤكد الفقهاء أن الذوق العام مرتبط بمقاصد الشريعة في حفظ النظام العام والآداب. وأن تقييد حرية الفرد في هذا الإطار يعد منعاً لضرر ودفعاً للفساد الظاهر، استناداً إلى قاعدة لا ضرر ولا ضرار. 

لكنهم في الوقت ذاته يشددون على أن التقييد يجب أن يكون بقدر الحاجة فقط، وألا يستخدم لتبرير التضييق على السلوك المشروع أو المباح شرعاً. أما من الجانب القضائي فقد اتجهت المحاكم السعودية في عدد من القضايا إلى ترجيح مبدأ الموازنة بين الحرية والالتزام بالنظام العام.

حيث أكدت الأحكام على أن العقوبة لا تفرض إلا في حال تحقق الفعل علناً وظهوره للناس بما يخدش الحياء أو يخالف القيم العامة، بينما تُستبعد المسؤولية إذا ثبت حسن النية أو انتفاء العلنية. وتعكس هذه الاتجاهات تطوراً في الاجتهاد القضائي السعودي نحو تبني مفهوم مرن ومتوازن، يراعي متطلبات المجتمع دون المساس غير المبرر بحرية الفرد وحقه في التعبير.

الفصل الخامس: الوقاية من مخالفات الذوق العام

المبحث الأول: البعد التوعوي والوقائي

  • الدور التثقيفي لوزارة الداخلية والجهات الإعلامية.

تؤدي وزارة الداخلية دوراً محورياً في نشر الوعي والوقاية من مخالفات الذوق العام، إذ لا يقتصر دورها على تطبيق العقوبات، بل يمتد إلى تعزيز السلوك الحضاري والتثقيف المجتمعي فقد أطلقت الوزارة حملات توعوية عبر منصات التواصل الاجتماعي والإعلانات العامة لشرح مضمون لائحة الذوق العام، وتوضيح السلوكيات الممنوعة والمشجعة بما يرسخ الامتثال الطوعي للنظام. كما تتعاون وزارة الداخلية مع الجهات الإعلامية الرسمية والخاصة في إعداد برامج تثقيفية وإرشادية تهدف إلى توضيح مفهوم الذوق العام وربطه بالقيم الدينية والاجتماعية للمجتمع السعودي. وتساهم هذه الجهود في الوقاية المسبقة من المخالفات عبر رفع الوعي المجتمعي بدلاً من الاقتصار على العقاب بعد وقوع الفعل.

الأمن العام السعودي يعلن بشكل دوري عن ضبط مخالفات الذوق العام في الأماكن العامة، مؤكدًا أن تطبيق العقوبات لا يهدف فقط إلى الردع، بل إلى ترسيخ ثقافة الانضباط الاجتماعي ومنع السلوكيات الخادشة للحياء أو المهددة للسلامة. وفي هذا السياق تعمل جمعية الذوق العام التي تأسست عام 2016 في المنطقة الشرقية على تحويل المفهوم من قيمة نظرية إلى ممارسة يومية، سواء في المدارس والحدائق أو المراكز التجارية ودور السينما.

الجمعية لم تكتفِ بالبرامج التوعوية، بل أطلقت مشروعات نوعية مثل “مجتمع الذوق في محافظة الخبر” بالشراكة مع هيئة تطوير المنطقة الشرقية، بهدف رفع جودة الحياة وتوفير بيئة حضارية أكثر التزامًا.

يأتي هذا التوجه منسجماً مع “رؤية 2030” التي تسعى إلى تعزيز المواطنة الإيجابية والسلوك المسؤول، من خلال نشر ثقافة الاحترام المتبادل والتقيد بالأنظمة.

  • أثر الوعي المجتمعي في خفض الانتهاكات.

يُعد الوعي المجتمعي من أهم العوامل المؤثرة في الحد من مخالفات الذوق العام، إذ يسهم إدراك الأفراد لمضمون الأنظمة والسلوكيات المقبولة في الأماكن العامة في الالتزام الطوعي بالقواعد دون الحاجة للتدخلات العقابية. فعندما يدرك المواطن والمقيم أن احترام الذوق العام يعكس صورة المجتمع وثقافته، يتحول النظام من مجرد التزام قانوني إلى سلوك حضاري راسخ. كما يؤدي نشر الوعي عبر المؤسسات التعليمية والإعلامية والأسرية إلى غرس قيم الاحترام والانضباط منذ الصغر، مما يحد تدريجياً من الأفعال المخالفة. وبذلك يصبح الوعي المجتمعي أداة وقائية تسهم في خفض الانتهاكات وتعزز ثقافة المسؤولية المشتركة في الحفاظ على الذوق العام.

  • أدوات توجيه السلوك العام.

تستخدم الجهات المعنية عدة أدوات عملية لتحقيق هذا الهدف، أبرزها:

  • الحملات التوعوية التي تبث عبر الإعلام التقليدي ومنصات التواصل الاجتماعي لتوضيح المخالفات الشائعة وتعريف الأفراد بحقوقهم وواجباتهم.
  • البرامج المجتمعية التي تنظم بالشراكة مع المدارس والجامعات والجهات التطوعية لنشر ثقافة الذوق العام بين مختلف الفئات.
  • برامج التدريب والتأهيل التي تستهدف موظفي الجهات الأمنية والإدارية لرفع كفاءتهم في التعامل الوعي مع المخالفات بأسلوب إرشادي أكثر من كونه عقابياً.

وتسهم هذه الأدوات مجتمعه في تحقيق الردع الإيجابي والوعي الوقائي بما يعزز الانضباط الذاتي لدى الأفراد ويحافظ على صورة المجتمع السعودي المتحضرة.

المبحث الثاني: نحو تطوير نموذج “التحذير قبل العقوبة”.

  • تجربة الإنذار المسبق كبديل للعقوبة الفورية.

تتجه السياسات الحديثة في إنفاذ نظام الذوق العام نحو تبني نموذج التحذير قبل العقوبة، الذي يهدف إلى تحقيق الردع التربوي قبل الردع الجزائي. ويقوم هذا النموذج على مبدأ أن الهدف من النظام ليس المعاقبة بقدر ما هو تصحيح السلوك العام وتعزيز العام وتعزيز الوعي بالأنظمة. تُعد تجربة الإنذار المسبق من الممارسات الإيجابية التي يمكن تطويرها لتكون مرحلة تمهيدية قبل فرض الغرامة، خاصة في الحالات التي لا يظهر فيها قصد الإخلال أو تكون المخالفة ناتجة عن سوء فهم ثقافي أو سلوكي بسيط. ويتيح هذا الأسلوب للجهات المختصة فرصة التوعية الميدانية وتذكير المخالف بواجباته النظامية، مما يعزز الثقة بين المواطن والجهات الأمنية، ويقلل من حالات التظلم والاعتراض.

 إن تطبيق هذا النموذج يسهم في تحقيق مبدأ التناسب والعدالة الإجرائية، ويجعل من الذوق العام سلوكاً راسخاً نابعاً من القناعة.

  • مقترح قانوني لتدرّج المخالفة من تنبيه إلى غرامة.

يُقترح تبني نظام تدريجي للعقوبة في مخالفات الذوق العام، يهدف إلى تعزيز الطابع التوعوي للنظام قبل تطبيق الجانب الجزائي. يقوم هذا التدرج على ثلاث مراحل متتابعة:

  1. المرحلة الأولى: التنبيه الشفهي أو الكتابي: 

تطبق عند المخالفة البسيطة أو غير المقصودة، حيث يكتفى بتوجيه تنبيه للمخالف وتوضيح السلوك الصحيح دون تسجيل عقوبة.

  1. المرحلة الثانية: الإنذار الرسمي:

تستخدم في حال تكرار الفعل أو تجاهل التنبيه السابق ويسجل فيها المخالفة إدارياً دون فرض غرامة مالية كإجراء تحذيري.

  1. المرحلة الثالثة: الغرامة المالية:

تفرض عند الإصرار أو تكرار المخالفة بعد الإنذار مع إمكانية مضاعفة الغرامة المالية في حال التكرار المتعمد أو الإساءة الجسيمة.

يسهم هذا التدرج في تحقيق العدالة والتناسب بين الفعل والعقوبة، ويعزز الثقة في تطبيق النظام بوصفه وسيلة تربوية وإصلاحية قبل أن تكون رادعاً مالياً. كما يدعم توجه الدولة نحو الوقاية المجتمعية وتحقيق سلوك حضاري قائم على الوعي لا على الخوف من العقوبة.

  • رؤية إصلاحية تراعي مصلحة المتهم والذوق العام معًا.

تقوم الرؤية الإصلاحية الحديثة على تحقيق توازن عادل بين حماية الذوق العام وصون حقوق المتهم، بحيث لا يكون تطبيق النظام أداة للعقاب فقط، بل وسيلة للإصلاح والتهذيب الاجتماعي.

فاحترام الذوق العام لا يتطلب تشديد العقوبات بقدر ما يتطلب ترسيخ الوعي والسلوك الطوعي لدى الأفراد من خلال إجراءات عادلة وإنسانية تراعي القصد والظروف المحيطة بالفعل. هذه الرؤية تمنح الجهات الإدارية والقضائية مرونة في التقدير بحيث تفرق بين المخالف المعتمد والمخطئ عن غير قصد مع اعتماد أساليب بديلة للعقوبة مثل التحذير أو التوعية الإلزامية قبل فرض الغرامات. وبذلك يتحقق توازن حقيقي بين مصلحة الفرد والمجتمع، في إطار نظام يرسخ مبادئ العدالة، ويحافظ على صورة المجتمع السعودي المتحضر المتسق مع قيمه الإسلامية والإنسانية.

الخاتمة

أظهرت الدراسة أن مفهوم الذوق العام في النظام السعودي يقوم على حماية القيم العامة وتعزيز السلوك الحضاري، وأن وضوح النصوص وتدرج العقوبات يعزز العدالة في التطبيق. كما بينت أهمية الركن المعنوي للمخالفة في التفرقة بين الفعل المعمد والخطأ غير المقصود، ودور الوعي المجتمعي والجهود التثقيفية في الوقاية من الانتهاكات. وأكدت الدراسة أن وجود تفاوت في تقدير المخالفات بين الجهات التنفيذية يستدعي وضع معايير موحدة، وأن تبني نموذج التحذير قبل العقوبة يعزز العدالة ويوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، فيما يضمن تعزيز دور النيابة العامة والقضاء سلامة الإجراءات وشفافيتها.

أن هذه الدراسة توصي بضرورة تطوير الإطار التشريعي والإجرائي المنظم لمخالفات الذوق العام بما يحقق التوازن بين الردع والإنصاف، ويأتي ذلك من خلال مراجعة نصوص اللائحة الحالية لتكون أكثر وضوحاً ودقة في تحديد الأفعال المخالفة بما يحد من تفاوت التقدير بين الجهات التنفيذية. وباعتماد مبدأ التدرج في العقوبة بحيث يسبق الغرامة تنبيه أو تحذير رسمي مع مراعاة قصد المخالف وظروف الفعل. لاسيما من أهمية إصدار دليل تفسيري موحد يوضح أمثلة تطبيقية للسلوكيات المخالفة للذوق العام، ضماناً لتوحيد الفهم لدى مأموري الضبط ورجال الأمن.

 كذلك تعزيز دور النيابة العامة والقضاء في الرقابة على سلامة الإجراءات وضمان حق المتهم في الاعتراض والتظلم وفق مبدأ المشروعية والعلانية. كما توصي الدراسة بتكثيف الجهود التوعوية والتدريبية للجهات المختصة وتوسيع التعاون بين وزارة الداخلية ووسائل الإعلام في نشر ثقافة الذوق العام بوصفها سلوكاً حضارياً أكثر من كونها التزاماً نظامياً. وأخيراً ضرورة تبني رؤية إصلاحية تتضمن العقوبات البديلة كالتوعية أو الخدمة المجتمعية ومراجعة دورية للائحة بما يتلاءم مع التطور الثقافي والاجتماعي للمجتمع السعوي.

نختم الدراسة بدعوة صريحة إلى سن ميثاق تفسيري موحد لمفاهم الذوق العام، يكون بمثابة مرجع رسمي يوضح الحدود الفاصلة بين السلوك المقبول والمرفوض في القضاء العام. ويهدف هذا الميثاق إلى تحقيق وضوح تشريعي وتوازن اجتماعي، بما يمنع الغموض في تطبيق النظام أو التفاوت في تقدير الأفعال.

ويراعى في صياغة هذا الميثاق التنوع الثقافي والاجتماعي داخل المجتمع السعودي، مع استحضار التحولات الاجتماعية والانتفاع الثقافي الذي تشهده المملكة في إطار “رؤية 2030”. إن وجود ميثاق تفسيري واضح يسهم في ترسيخ قيم الاحترام والالتزام ويجعل من الذوق العام إطاراً جامعاً يعزز الوحدة والوعي والمسؤولية المجتمعية لا مجرد أداة للضبط أو العقاب.

المراجع

  • نظام لائحة المحافظة على الذوق العام، بالمرسوم الملكي رقم (444) وتاريخ 4/8/1440ه.
  • نظام الإجراءات الجزائية، بالمرسوم الملكي رقم (م/2) وتاريخ 22/1/1435ه.
  • نظام الأساسي للحكم، بالمرسوم الملكي رقم (أ/90) وتاريخ 27/8/1412ه.
  • نظام المطبوعات والنشر، بالمرسوم الملكي رقم (م/32) وتاريخ 3/9/1421ه.
  • نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، بالمرسوم الملكي رقم(م/17) وتاريخ 8/3/1428ه.
  • القحطاني، الشيخ حذيفة بين حسين. شبكة الألوكة، الحرية الشخصية وحدودها في الشريعة الإسلامية، 10/6/1446ه.
https://www.alukah.net
  • الجابر، مريم. العربية. نت، الذوق العام.. المعيار الحضاري وضابط السلوك في السعودية،2025.
https://www.alarabiya.net
  • عدنان، ثائرة. مقالاتي، لائحة مخالفات الذوق العام في السعودية بعد التعديل، 1447.
https://mqalaty.net
  • سُعوديبيديَا، الذوق العام في السعودية،2019.
https://saudipedia.com
  • زايد، د. خالد. جريدة البلاد، المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية، 2025.
https://www.albiladpress.com/news/2025/6215/columns/949136.html

أكتب تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *