الابتزاز الإلكتروني: ما بين الأفراد والمؤسسات
أولًا: المقدمة
يشهد العالم اليوم ثورة رقمية هائلة قلبت موازين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية رأسًا على عقب. فالتقنية الحديثة لم تعد مجرد وسيلة ترفيه أو تواصل، بل أصبحت مكوّنًا أساسيًا في بنية الدولة والمجتمع ومجالات التعليم، والصحة، والتجارة، والحوكمة. ومع هذا التحول الجذري، برزت مخاطر غير مسبوقة تمثلت في الجرائم الإلكترونية بأنماطها المتنوعة، والتي يعد الابتزاز الإلكتروني أخطرها وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا على المستويين الفردي والمؤسسي.
فالابتزاز الإلكتروني جريمة تقوم على استغلال الوسائل التقنية لإجبار الضحية على القيام بفعل أو الامتناع عنه تحت وطأة التهديد بنشر بيانات أو صور أو معلومات شخصية. خطورتها لا تكمن في أسلوبها فحسب، بل في سرعة انتشارها وسهولة ارتكابها وامتدادها خارج حدود الدولة، بحيث يمكن للجاني أن يكون في قارة أخرى بينما الضحية في بيته أو مكان عمله. وهذا البعد العابر للحدود يجعل الجريمة مركبة تحتاج إلى مواجهة تتجاوز الأدوات التقليدية للعدالة الجنائية.
ولا تقتصر خطورة الابتزاز الإلكتروني على الأفراد، بل تمتد لتشمل المؤسسات والشركات، إذ قد تتعرض كيانات تجارية راسخة لابتزاز يستهدف سمعتها أو بيانات عملائها أو أنظمتها التقنية، وهو ما يهدد استقرارها المالي وقدرتها التنافسية في السوق. ووفقًا لتقارير الأمن السيبراني الصادرة عن هيئة الاتصالات السعودية، فإن عدداً من الشركات تعرضت لهجمات رقمية ذات طابع ابتزازي (Ransomware) تمثلت في تشفير بياناتها وطلب مبالغ مالية مقابل إعادتها، ما أدى إلى خسائر بملايين الريالات في بعض الحالات. وهذا النوع من الابتزاز يبرز البعد الاقتصادي الخطير للجريمة، إذ لم يعد الأمر يتعلق بفرد يخشى فضح حياته الخاصة، بل بشركات قد تنهار بالكامل إذا استجابت لضغوط المبتزين.
وتزداد أهمية هذا الموضوع بالنظر إلى أبعاده النفسية والاجتماعية. إذ غالبًا ما يعاني الضحايا من صدمات نفسية عميقة، تشمل القلق والخوف والشعور بالعار وربما التفكير في الانتحار. كما تتأثر السمعة الاجتماعية للأفراد، وتتعرض الأسر للتفكك نتيجة هذه الجريمة. ولعل أبرز ما يزيد الأمر خطورة هو تردد الضحايا في الإبلاغ خوفًا من الفضيحة أو من عدم جدوى التدخل، الأمر الذي يشجع المبتزين على الاستمرار في جرائمهم.
ولقد استشعر المشرّع السعودي خطورة هذه الجريمة مبكرًا، فأصدر نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية بموجب المرسوم الملكي رقم (م/17) وتاريخ 8/3/1428هـ، حيث نص في مادته الثالثة على معاقبة مرتكب الابتزاز بالسجن مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على 500 ألف ريال، أو بإحداهما. كما نصت المادة السادسة على عقوبات أشد في حال ارتبطت الجريمة بما يمس القيم الدينية أو الأخلاقية. غير أن التطبيق العملي لهذا النظام يواجه تحديات تقنية وقانونية، أبرزها صعوبة إثبات الأدلة الرقمية وسرعة انتشار المعلومات، فضلًا عن الطبيعة العابرة للحدود للجريمة، ما يستلزم تعاونًا دوليًا وثيقًا في إطار اتفاقيات مثل اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة الإلكترونية (2001م).
وعلى ضوء ما تقدم، يأتي هذا البحث ليتناول موضوع الابتزاز الإلكتروني من منظور شامل، يتدرج من التعريف وأنواعه وأسبابه، مرورًا بأبعاده النفسية والاجتماعية، وصولًا إلى الإطار القانوني السعودي والدولي لمكافحته، ثم الوقاية والمواجهة. ويهدف البحث إلى:
- توعية القراء بخطورة الابتزاز الإلكتروني وآثاره على الأفراد والمؤسسات.
- تحليل الإطار القانوني السعودي في ضوء نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية وتقييم فعاليته.
- استعراض التجارب الدولية في مكافحة الابتزاز الإلكتروني وأوجه الاستفادة منها.
- تقديم حلول وقائية عملية على المستويات الفردية والمؤسساتية والحكومية.
أما من حيث المنهجية، فيعتمد البحث على المنهج التحليلي الوصفي، حيث يتناول النصوص النظامية بالتحليل، ويستعرض الحالات الواقعية في السعودية والعالم، ويقارن بين التشريعات الوطنية والدولية، مع التركيز على عرض الوقائع على شكل مشكلات عملية والحلول النظامية والتوعوية المقترحة لها.
وبذلك، فإن هذا البحث يسعى إلى الإسهام في إثراء المكتبة القانونية والاجتماعية العربية بدراسة متكاملة حول الابتزاز الإلكتروني، تجمع بين الطابع النظري والتحليل العملي، وتطرح توصيات تسهم في تعزيز أمن المجتمع واستقراره في مواجهة هذه الجريمة الرقمية المستحدثة.
ثانيًا: تعريف الابتزاز الإلكتروني وأشكاله
- تعريف الابتزاز الإلكتروني
يُعرف الابتزاز الإلكتروني بأنه: “كل فعل يقوم به الجاني بتهديد شخص آخر بنشر أو استغلال بيانات أو صور أو معلومات خاصة عبر وسائل تقنية المعلومات، بهدف حمله على القيام بفعل أو الامتناع عن فعل لتحقيق مصلحة غير مشروعة”. وهو يدخل ضمن نطاق الجرائم المعلوماتية التي عالجها المشرّع السعودي في نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية (1428هـ).
- أبرز أشكال الابتزاز الإلكتروني: مشكلة وحل
الابتزاز النفسي والاجتماعي
المشكلة: يستهدف هذا النوع الضحايا في أعمق نقاط ضعفهم، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي. المبتز يستخدم معلومات أو صورًا خاصة للضغط على الضحية، مهددًا بكشفها أمام الأسرة أو المجتمع. أثر هذا الابتزاز يشمل:
- القلق والخوف المستمر.
- الانعزال الاجتماعي أو فقدان العلاقات الأسرية.
- تراجع الأداء الدراسي أو الوظيفي.
- أحيانًا التفكير بالانتحار بسبب الضغط النفسي.
الحل:
- على المستوى الفردي: تعزيز الوعي الرقمي، وعدم مشاركة المعلومات أو الصور الحساسة مع أي طرف غير موثوق.
- على المستوى القانوني: التبليغ الفوري عن المبتز للجهات الرسمية مثل النيابة العامة وشرطة الإنترنت، والاستعانة بالنظام السعودي لمكافحة الجرائم المعلوماتية الذي يجرّم هذا الفعل ويعاقب عليه.
- على المستوى الاجتماعي والنفسي: الحصول على دعم الأسرة والأصدقاء، أو الاستعانة بالمستشارين النفسيين لتخفيف الأثر النفسي والاجتماعي للابتزاز.
الابتزاز بالصور والفيديوهات
المشكلة: يعتمد هذا النوع على التهديد بنشر محتوى خاص بالضحية (صور أو مقاطع فيديو) للحصول على مكاسب مالية أو عاطفية. يتم هذا غالبًا عبر اختراق الحسابات، أو استدراج الضحية لمشاركة هذه المواد. أخطار هذا النوع تشمل:
- تدمير السمعة الشخصية والمهنية.
- الضغط النفسي المستمر والخوف من الفضيحة.
- الانزلاق في دائرة مستمرة من الاستغلال.
الحل:
- على المستوى الفردي: الحفاظ على الخصوصية الرقمية، استخدام كلمات مرور قوية ومصادقة ثنائية، وعدم مشاركة أي محتوى حساس عبر الإنترنت.
- على المستوى القانوني: توثيق الرسائل والمواد المهددة، ثم رفعها للجهات المختصة لملاحقة المبتز ومصادرة الأدلة الرقمية.
- على المستوى الوقائي: التوعية المستمرة بالمخاطر على مستوى المدارس، الجامعات، ووسائل الإعلام، لزيادة الوعي بين الشباب والفتيات.
– الابتزاز المالي
المشكلة: يركز هذا النوع على المطالبة بالمال مقابل عدم كشف معلومات أو بيانات حساسة. يشمل الأفراد والشركات على حد سواء، وقد يصل إلى تهديدات معقدة مثل تشفير بيانات الشركة وطلب فدية (Ransomware). أخطاره تشمل:
- خسائر مالية مباشرة وكبيرة.
- تراجع الثقة بالضحية بين المحيطين والعملاء.
- زيادة فرص الابتزاز المستمر إذا تم الاستجابة لمطالب المبتز.
الحل:
- على المستوى الفردي: عدم الاستجابة للمطالب المالية، واللجوء فورًا للجهات القانونية المختصة.
- على المستوى المؤسسي: تطبيق بروتوكولات الأمن السيبراني، نسخ احتياطية للبيانات، وتدريب الموظفين على التعامل مع رسائل الابتزاز.
- على المستوى القانوني: الاستفادة من العقوبات المقررة في نظام الجرائم المعلوماتية، وملاحقة المبتزين قضائيًا لضمان الردع ومنع تكرار الجريمة3. الفرق بين الابتزاز التقليدي والرقمي.
يتميز الابتزاز الرقمي عن التقليدي بخصائص عدة:
- سرعة الانتشار عبر الشبكات.
- إمكانية ارتكابه من خارج الدولة.
- صعوبة استرداد البيانات بعد تسريبها.
- الاعتماد على أدوات تقنية متطورة لإخفاء هوية الجاني.
ثالثًا: أسباب انتشار الابتزاز الإلكتروني
1. التطور التكنولوجي وسهولة الوصول
إتاحة الأجهزة الذكية والتطبيقات المشفرة جعلت عملية استهداف الضحايا أمرًا يسيرًا، خاصة مع ضعف الضوابط الأمنية في بعض المنصات.
2. ضعف الوعي الرقمي
كثير من الأفراد والمؤسسات لا يتخذون تدابير وقائية مثل كلمات المرور القوية أو التحقق الثنائي، مما يفتح المجال أمام المبتزين.
3. قصور بعض الأنظمة في الملاحقة
على الرغم من أن النظام السعودي متقدم نسبيًا، إلا أن الطبيعة العابرة للحدود للجريمة تجعل ملاحقة الجناة الذين يعملون من الخارج أمرًا معقدًا.
4. غياب الرقابة الأسرية والمؤسسية
ضعف دور الأسرة في مراقبة الأبناء، وغياب التدريب المؤسسي للعاملين، يؤدي إلى هشاشة الوعي الرقمي.
رابعًا: الأبعاد النفسية والاجتماعية للابتزاز الإلكتروني
1. التأثير النفسي
- الصدمة والقلق: الضحايا غالبًا ما يدخلون في حالة من الذعر والخوف المستمر.
- الاكتئاب والعزلة: بعض الضحايا يفضلون الانسحاب من محيطهم الاجتماعي.
- محاولات الانتحار: سجلت بعض الحالات التي انتهت إلى إيذاء الذات نتيجة فقدان الأمل.
- التأثير الاجتماعي
- انهيار سمعة الفرد أو الأسرة نتيجة نشر محتوى خاص.
- تراجع الثقة المجتمعية في الأمن الرقمي.
- خسائر مؤسساتية نتيجة تراجع ثقة العملاء بقدرة الشركة على حماية بياناتهم.
3. حالات واقعية
1. قضية ابتزاز فتاة عبر الصور الخاصة
الوقائع:
تعرضت فتاة لابتزاز من قبل شاب تعرفت عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. قام الشاب بالحصول على صور خاصة لها، ثم هددها بنشرها إذا لم تلبِ مطالبه. بعد فترة من الضغط، قررت الفتاة التبليغ عن الحادثة. تمكنت الجهات المختصة من تحديد هوية المبتز، الذي تبين أنه كان يقيم خارج المملكة. تم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، وتم القبض عليه بالتعاون مع السلطات الدولية المعنية.
2. قضية ابتزاز شاب عبر فيديوهات خاصة
الوقائع:
شاب سعودي تعرض لابتزاز من فتاة تعرف عليها عبر الإنترنت. بعد تبادل مقاطع فيديو خاصة، بدأت الفتاة تهدده بنشر الفيديوهات إذا لم يرسل لها مبالغ مالية. استمر الابتزاز لمدة عامين، حتى قرر الشاب التبليغ عن الحادثة. تمكنت الجهات الأمنية من تحديد هوية المبتز، الذي تبين أنه كان جزءًا من شبكة دولية للابتزاز الإلكتروني. تم القبض عليه وتقديمه للعدالة.
3. قضية ابتزاز مالي عبر تهديد بنشر معلومات حساسة
الوقائع:
تعرضت سيدة سعودية لابتزاز من شخص كان يمتلك معلومات حساسة عنها. هددها بنشر هذه المعلومات إذا لم تدفع له مبلغًا ماليًا. بعد استشارة قانونية، قامت السيدة بالتبليغ عن الحادثة. تمكنت الجهات المختصة من تحديد هوية المبتز، الذي تبين أنه كان يعمل في مجال تقنية المعلومات. تم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، وتم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة.
الإجراءات القانونية المتخذة للحالات السابقة:
تم تطبيق نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية في المملكة العربية السعودية، الذي ينص على:
- العقوبات: السجن لمدة تصل إلى سنة واحدة، وغرامة مالية تصل إلى 500,000 ريال سعودي، أو الجمع بين العقوبتين.
- الحق العام: حتى في حالة تنازل الضحية، تستمر النيابة العامة في متابعة القضية لضمان الردع العام.
- التعاون الدولي: في الحالات التي يكون فيها المبتز خارج المملكة، يتم التعاون مع السلطات الدولية المختصة لتحديد هوية المبتز والقبض عليه.
كيفية الإبلاغ:
يمكن للمواطنين والمقيمين في المملكة العربية السعودية التبليغ عن حالات الابتزاز الإلكتروني عبر:
- الرقم الموحد: 1909
- التطبيقات الإلكترونية: مثل تطبيق “كلنا أمن”
- • الموقع الإلكتروني لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر -خدمة مكافحة الابتزاز https://www.pv.gov.sa/Eservices/Pages/AntiExtortionServiceInfo.aspx
- خامسًا: الإطار القانوني والتنظيمي لمكافحة الابتزاز الإلكتروني
1. النظام السعودي
-المادة الثالثة من نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية: تنص على معاقبة من يقوم بالابتزاز عبر الوسائل التقنية بالسجن مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد على 500 ألف ريال أو بإحداهما.
-المادة السادسة: شددت العقوبات في حال ارتبط الابتزاز بمحتوى يمس القيم الدينية أو الأخلاقية، حيث تصل العقوبة إلى السجن خمس سنوات وغرامة تصل إلى ثلاثة ملايين ريال.
2. آليات تطبيق النظام
- استقبال البلاغات عبر الرقم (1909) وتطبيق “كلنا أمن”
- تخصيص وحدات في الشرطة والنيابة العامة للتحقيق في قضايا الابتزاز.
- الاستعانة بوحدات الأدلة الرقمية لتعقب مصدر الجريمة.
3. القوانين الدولية
- اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة الإلكترونية (2001م): أول اتفاقية دولية تُلزم الدول بالتعاون في مكافحة الجرائم الرقمية.
- التعاون الثنائي والإقليمي: من خلال الإنتربول ومذكرات التفاهم بين الدول.
- الاتفاقية العامة لتسليم المجرمين المعقودة بين دول الجامعة العربية بتاريخ 14 سبتمبر -1952 م.
4.التحديات القانونية
- صعوبة جمع الأدلة الرقمية.
- اختلاف الأنظمة بين الدول.
- بطء الإجراءات القضائية مقارنة بسرعة الجريمة.
سادسًا: سبل الوقاية والمواجهة
1. على مستوى الأفراد
- تجنب مشاركة المعلومات الحساسة.
- اعتماد برامج الحماية والتشفير.
- عدم الاستجابة للمبتز، والإبلاغ فورًا.
- على مستوى المؤسسات
- تطبيق معايير الأمن السيبراني.
- تدريب الموظفين على مواجهة التهديدات.
- وجود خطط استجابة للأزمات الرقمية.
- على مستوى الدولة
- تطوير التشريعات باستمرار.
- إنشاء مراكز وطنية للأمن السيبراني.
- تعزيز التعاون الدولي.
4. دور الأسرة والمدرسة والإعلام
- التوعية المبكرة للأطفال.
- الحملات الإعلامية المستمرة للتحذير من مخاطر الابتزاز.
- الأدوات التقنية
- برامج مكافحة الفيروسات والتشفير.
- أنظمة مراقبة إلكترونية للأجهزة الخاصة بالقاصرين.
- خطوات التعامل عند وقوع الابتزاز
- توثيق الأدلة (صور، رسائل، محادثات).
- التوجه إلى الجهات الأمنية المختصة.
- عدم دفع الأموال أو الاستسلام للمبتز.
سابعًا: الخاتمة
لقد أبرز البحث أن انتشار الابتزاز الإلكتروني يرتبط بعدة عوامل متداخلة، منها سهولة الوصول إلى الضحايا عبر الإنترنت، وقصور الوعي الرقمي لدى قطاعات واسعة من المستخدمين، إضافة إلى بعض التحديات التشريعية في ملاحقة المجرمين الذين قد يستغلون الطبيعة العابرة للحدود للفضاء الإلكتروني. ورغم الجهود المبذولة على المستوى المحلي والدولي، إلا أن الثغرات ما زالت قائمة، وهو ما يستوجب تفعيل أدوات رقابية وتشريعية وتقنية أكثر صرامة وفاعلية.
كما بيّن التحليل القانوني أن النظام السعودي، ممثلًا في نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، قد وفر إطارًا رادعًا لمواجهة الابتزاز الإلكتروني من خلال تجريم الأفعال وفرض العقوبات المناسبة، إلا أن فعالية هذا النظام ترتبط بقدرة الجهات المختصة على تطوير آليات التحقيق الرقمي، وجمع الأدلة الإلكترونية بما يتفق مع المعايير الفنية والقانونية الحديثة. أما على الصعيد الدولي، فإن التعاون بين الدول يظل شرطًا أساسيًا لمواجهة هذه الجريمة، نظرًا للطابع العابر للحدود الذي يميزها.
في جانب الوقاية، خلص البحث إلى أن الحماية تبدأ من الفرد ذاته عبر تعزيز وعيه الرقمي وحسن إدارته لمعلوماته وخصوصياته، مرورًا بدور الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام في نشر ثقافة الأمان الرقمي، وصولًا إلى مسؤوليات المؤسسات الحكومية والخاصة في تبني سياسات وقائية وتقنية متطورة. إن توافر برامج الحماية، والتدريب المستمر، والتوعية الشاملة، كلها تمثل أدوات فاعلة للحد من فرص وقوع الضحايا في شرك المبتزين.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن مواجهة الابتزاز الإلكتروني لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال شراكة متكاملة بين الفرد والمجتمع والدولة، بحيث يتحمل كل طرف مسؤوليته وفق موقعه. فالمجتمع الواعي والمحصّن معلوماتيًا يشكل خط الدفاع الأول ضد هذه الجريمة، بينما يوفر النظام القانوني الدعم اللازم لردع المجرمين وتحقيق العدالة، فيما تظل الجهود الدولية ركنًا مكملًا لمعالجة ما يتجاوز قدرة التشريعات الوطنية.
وبناءً على ذلك، فإن الدعوة موجّهة إلى جميع الأطراف للالتزام بمبدأ الوقاية قبل العلاج، وإلى ضرورة تطوير ثقافة رقمية راسخة تجعل من استخدام التكنولوجيا وسيلة للبناء والتنمية، لا أداة للتهديد والابتزاز. فالجريمة الرقمية وإن بدت حديثة في أشكالها، إلا أن خطورتها تضاهي – وربما تتجاوز – الجرائم التقليدية، ما يحتم التعامل معها بجدية تامة، واستشعار أن مسؤولية التصدي لها مسؤولية جماعية، تحفظ أمن الفرد، واستقرار المجتمع، وسمعة الدولة في العصر الرقمي.
التوصيات
- تعزيز التوعية المجتمعية الرقمية:
- إطلاق حملات وطنية شاملة عبر القنوات الإعلامية والمنصات الرقمية لتوضيح خطورة الابتزاز الإلكتروني، وآثاره النفسية، والاجتماعية، والقانونية.
- إدماج التثقيف الرقمي في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، بهدف بناء جيل واعٍ بخطورة مشاركة بياناته وصوره ومعلوماته الشخصية.
- رفع مستوى الحماية التقنية:
- إلزام المؤسسات الحكومية والخاصة بتطبيق أعلى معايير الأمن السيبراني، وإجراء اختبارات دورية لاختراق أنظمتها.
- تشجيع الأفراد على استخدام المصادقة الثنائية، وتحديث كلمات المرور بشكل دوري، مع تجنب مشاركة المعلومات الحساسة عبر المنصات غير الموثوقة.
- تطوير الإطارات القانونية والتنظيمية:
- مراجعة وتحديث الأنظمة الوطنية الخاصة بمكافحة الجرائم المعلوماتية بما يواكب تطورات الجريمة الرقمية، مع ضمان سرعة الفصل في القضايا لحماية الضحايا.
- تعزيز التعاون القضائي الدولي عبر الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف، بما يسهم في ملاحقة المبتزين عبر الحدود.
- تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني:
- تشجيع الجمعيات المتخصصة على تقديم الدعم النفسي والقانوني لضحايا الابتزاز الإلكتروني.
- إطلاق منصات سرية وآمنة لتلقي الشكاوى والاستشارات، بحيث يشعر الضحايا بالثقة في الإبلاغ دون خوف من الفضيحة أو الوصمة الاجتماعية.
- تأهيل الكوادر الأمنية والقانونية:
- تدريب المحققين ورجال الأمن على أحدث أساليب جمع الأدلة الرقمية وتحليلها بما يتماشى مع المعايير الدولية.
- تزويد القضاة وأعضاء النيابة بخبرات متقدمة في التعامل مع القضايا المعلوماتية لضمان دقة الحكم وعدالة القرار.
- تعزيز التعاون بين الأفراد والمؤسسات:
- بناء جسور تواصل بين القطاعين العام والخاص لمشاركة الخبرات والبيانات حول أنماط الابتزاز الإلكتروني وأساليبه.
- تشجيع الشركات الكبرى على إطلاق برامج مسؤولية اجتماعية موجهة لحماية مستخدمي الإنترنت من مخاطر الجريمة الرقمية.
- إرساء ثقافة الإبلاغ وعدم الاستسلام:
- نشر الوعي بأن السكوت أو الرضوخ لمطالب المبتز لا ينهي المشكلة، بل يضاعفها، وأن اللجوء للجهات الرسمية هو الحل الأمثل.
- توفير قنوات إبلاغ سهلة وسريعة وموثوقة، مثل الخطوط الساخنة والتطبيقات الرسمية، لتشجيع الضحايا على المبادرة
قائمة المراجع والمصادر:
- النصوص النظامية والوثائق الرسمية
- نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، المملكة العربية السعودية، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/17) وتاريخ 8/3/1428هـ.
- النيابة العامة السعودية، دليل إجراءات التعامل مع جرائم الابتزاز الإلكتروني، الرياض، 2022.
- الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، السياسة الوطنية للأمن السيبراني، الرياض، 2019.
- كتب ودراسات أكاديمية
- البراك، عبد الله بن محمد. الجرائم المعلوماتية في النظام السعودي: دراسة مقارنة. الرياض: مكتبة القانون العربي، 2020.
- الحربي، خالد بن عبد الرحمن. مكافحة الابتزاز الإلكتروني بين القانون والتقنية. جدة: دار الميمان للنشر، 2021.
- الدوسري، عبد العزيز. الأمن السيبراني والقانون الجنائي. الرياض: معهد الإدارة العامة، 2020.
- منصور، أحمد حسن. جرائم الإنترنت وأثرها على المجتمع: دراسة تحليلية. القاهرة: دار النهضة العربية، 2019.
- أبحاث ومقالات علمية منشورة
- الغامدي، نورة. “الابتزاز الإلكتروني: أسبابه وآثاره وطرق مكافحته”. مجلة العلوم الأمنية، كلية الملك فهد الأمنية، العدد 45، 2021.
- العتيبي، ماجد. “دور النيابة العامة في مواجهة الابتزاز الإلكتروني”. المجلة السعودية للدراسات القانونية، جامعة الملك سعود، العدد 12، 2022.
- الشمري، فهد. “الوقاية من الجرائم المعلوماتية في البيئة السعودية”. مجلة دراسات أمنية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2020.
- مصادر إلكترونية موثوقة
النيابة العامة السعودية – التوعية بالجرائم المعلوماتية، https://www.pp.gov.sa.
وزارة الداخلية السعودية، منصة “كلنا أمن”، https://www.moi.gov.sa.
الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، البوابة الرسمية، https://nca.gov.sa.
أكتب تعليقا